مقالات

المؤشِّر العربي 2022 : الانحدار اللبناني

خرج المؤشر العربي لسنة 2022 بخلاصة لبنانية ذات مغزى، وَضَعِت البلد، الذي قال عنه أهله إنّه فريدٌ بين أقرانه، في أسفل سلّم تصنيف القضايا والمسائل العمومية، عربيًّا، مِمَّا طَرَح وسيطرح علامة استفهام حول مغزى الريادة التي تَغَنّى بها اللبنانيون، وحول معنى الثقة بهذا المغزى، الذي وافق عليه الأخوة في البلاد العربية.

إعادة الأمر إلى صوابه الواقعي، وإلى توطين مُبْتَغَاه المتفائل، فوق تَضاريس مسالكه الوَعِرَة، يأخذ البحث إلى الخَلَلِ الأصلي، الذي واَكَبَ استواءَ لبنان كيانًا في إطار جغرافي، والذي رافق استعصَاء اللبنانيين وامْتِنَاعهم عن التَشَكُّل ضمنَ إطارِ “لبنانيّةٍ” جَامعة رَاسِخَة، يُعْرَفُوْنَ بها، ويتعرَّفُونَ إلى كتلة ذَوَاتِهِم الجَمْعِيّة، في”ذاتها الواحدة” والمُوَحِّدَة. خُلاصَة القول، لم يكن رَسْمُ لبنان الكبير رسمًا “مصهريًّا”، بل ظلّ وعلى مدى قَرْنٍ من عُمْرِ ألوان خطوطه، رسمًا صراعيًّا، طَبَعَ حقباتِ طويلة من زمان المغامرة التكوينية اللبنانية.

مسارب الخَلَل
ظَهَرَ لبنان الحالي إلى الوجود، ولمْ يَحْظَ ظُهورُه بإجماع من صاروا مواطنيه. الافتراق عند النشأة، كان بين الطوائف على وجه العموم، وكان ضمن كلّ طائفة على وجه الخصوص. الرفض الواضح بَنَاهُ أصحابُه على قِرَاءَتَيْنِ مُفْتَرِقَتَيْن، إحداهما اسْتَعَانَت بمادة تاريخ أقلَّوِي، مصدره كتاب الجبل والإمارة، والثانية غَرَفَتْ من مادّة تاريخ أكثري، مصادره الدين والقومية. إذن لم ينبثق الكيان من عمليّة تَرَاكميّة استقلالية فَرَضَت وجودَه. لذلك، وفي غياب مُشتركات الاستقلالية، كان الحضور الأبرز لحسابات الخصوصية. وعلى ذلك قام البنيان، وقام مع العمارة المائلة الخَلَلُ الذي تَسَرّب من الأساس، الذي لم يكن راسخًا، ليظهر على هيئة تَصَدُّعٍ في “السقوف وفي الجدران”. عمليّة التسرّب هذه، لم تعرفْ توقفًّا، بل استراحت في محطّات “استراحة” أهلية، ثمّ استأنفت تقدّمَها بثبات أشدّ، وبعزيمة متجدّدة. عليهِ، وتِبَاعًا، كان اشتدادُ عُودِ الخلل، من منبته إلى مطارح إقامته، مصدرَ استضعافٍ وضعف وإضعاف، لمجمل البِنْيَة اللبنانية الهشّة، منذ لحظة استيلادها على خريطة “الشراكة” السياسية الدوليّة.

لكن أين بَرَزَ؟ ذلك النَهشُ من”الكتلة الحيّة” اللبنانية؟ ولماذا استمرّت استِبَاحَةُ الفضاء العمومي الوطني، من دون مراقبة أو مَسَاءَلَة أو محاسبة؟ لم يكن الجواب الشافي ليأتي من استنطاق السياسة بأسئلة سياسية، فهذه يطيش سهمُ سؤالها عَمْداً، لأن المقصود الانزياح عن الهدف، والإمعان في لعبة التمويه والتضليل. الجواب كان وما زال في لُغَةِ الأرقام التي لا تُحَبِّذُها المجموعات الأهليّة.

الأرقام الناطقة
حمل”المؤشّر العربي” أرقامًا كَشَفَت المسكوت عنه عربيًّا، ومدَّتْ على بساط النور ما وضعته الأنظمة العربية في غيهب الظلام، وأخذت بأيدي “المواطنين” فعبرت بهم حواجز التردّدِ والرهبة، التي اعتنت الأجهزة الأمنية بحراسة هيبتها. أدلى الجمهور العربي بآرائه، فتناول أوضاعه وأوضاع حكامه، فكانت الحصيلة الغالبة خيبةً عامّة، وانتظاريّة متصلة بلا رجاء منظور في المدى القريب.

في السياق، وعلى صعيد لبناني، كانت النتيجة صادمة، وحصيلة الآراء الموثقّة تجاوزت نسبتها ما كان متوقعًا لها. ربما، بل بات مٌحَقَّقًا أن المزاج الشعبي اللبناني كان ينقصه البيان الرقمي الموضوعي، الذي يؤشّر بالخَطِّ البياني الواضح إلى الدَرْكِ الأسفل الذي تقيم فيه الأحوال الشعبية، وإلى الهوَّةِ السحيقة التي سقطتْ فيها “المزايا” اللبنانية، هذه التي لم تكن مزايا تكوينية لكيان، بل كانت نجاحاتٍ فرديَّةً، يحمل أصحابها الجنسية اللبنانية التي تحمل دلالةً على مكان ولادة جغرافية، وليس على مكان تشكّل اجتماع، ومكان انبثاق مُوَاطَنَةٍ واضحةِ الصِفَات وجَلِيَّةِ السِمَات.

ونقرأ في كتاب الأرقام، لنجدَ اللبنانيين يُعطونَ علامة سيّء للوضع السياسي، وسيّء جدّا للوضع الاقتصادي ولاتجاهاته التي لا تعرف طريقها إلى الوجهة الصحيحة. على الصعيدين، وحسب لغة المؤشر، تجاوز “السيّء” نسبة التسعين في المئة، أي ما يلامس درجة الإجماع من مجموع المُسْتَطْلَعِين.

قضية الفساد المستشري، نالت ما تجاوز الثمانين بالمئة من نسبة الآراء، وعدم تطبيق القانون بالسويّة، وعدم جدّية الحكم في التصدي للفساد وللتجاوزات، كان لهما رقم وافر من الإدانة، تجاوزت نسبته السبعين بالمئة.

ولأن الأمر ما هو عليه، كانت العين على القضاء، أي على المحاسبة النزيهة الممكنة من قِبَلِ سلطة مدنية مستقلّة عن السلطة وعن تجاوزاتها، لكن أوضاع هذه الأخيرة كانت مماثلة لما هو سائد في بقية مفاصل الدولة. ونظرة اللاثقة إلى الاقتصاد والسياسة، انسحبت على القضاء بشقَّيْه، المدني والشرعي، فنال الطرفان نسبة لا ثقة تجاوزت الأربعين بالمئة، والخمسين بالمئة، فنال لبنان بذلك الموقع الأسفل في سلًم تقييم الأوضاع القضائية العربية.

على صعيد تلازم المسارات، وفي سياق التعلّق ببصيص اجتماعي كاشف، توجّه الاستبيان إلى وضع الإعلام، ربما انطلاقاً من فرضية انتسابه إلى “البناء التحتي” من المجتمع، في مواجهته “للبناء الفوقي” الحاكم والمتحكِّم، لكن تلك الفرضية أسقطتها اللاثقة المعمَّمَة على سائر قطاعات الحالة اللبنانية.

والحال، كانت النتيجة ارتفاع نسبة الراغبين في الهجرة، إلى ما فوق الستين بالمئة، وتدنِّي نسبة المهتمين جدّا بالسياسة إلى حدود العشرة بالمئة. هي نسبة مفاجئة لمن يعتقدون أن اللبناني”حيوان سياسي”. وربما جرى الاختلاط هنا بين التذمّر الكلامي الذي لا يتعدَّى وَصْفَ سُوءِ الحال، ثمّ لا يتجاوز الوصف إلى سؤال: ما السبيل إلى تغيير الأحوال.

استحضار أسئلة
لم يكن مطلوبًا من المؤشر العربي طرح الأسئلة كلها، فالأمر ليس من مهماته، ولا يقع في مدى قدراته، لكن المؤشر كان عامل حثِّ يدفع صوب ضرورة استكمال القضايا الغائبة وطرح الأسئلة الناقصة، في البلاد الأربعة عشر التي كانت موضوعًا للاستبيان.

لبنانيًّا، يجب طرح السؤال عن النخبة اللبنانية في صيغة تشكيكية تسأل قبليًا عن وجودها. فهل النخبة موجودة حقًا في لبنان؟ كيف يُستَدَلُّ عليها؟ ما دورها؟ وما الرأي العام بهذا الدور؟

لبنانيًّا أيضًا، لماذا تكون الهجرة خيارًا غالبًا؟ وكيف يراكم تغيير في ظلّ تسرّب قواه النابضة من ميدان المواجهة؟ هل يكفي وصف ذلك بالإحباط؟ أم يذهب التحليل إلى قلّة خبرة الفئات المعترضة، وإلى نظرتها التبسيطية إلى واقع النظام؟ هل يقع تغيير النظام هذا في متناول المدى السياسي القصير، أم أن في الرؤية لهذا المدى حداثة سنٍّ سياسية؟

من الوارد أعلاه، ومن عناوين كثيرة حاضرة، تطلّ مسألة الأحزاب السياسية، التي لا يمكن الحديث عن معارضة شعبية في معزلٍ عن انتظام قوى هذه الحركة في أُطُرٍ نظامية متعدّدة.

لقد رفضت نسخة الحركة الشعبية الناشئة في 17 تشرين الأول 2019، مبدأ الحزبيّة، تأسيسًا على إدانتها للنسخ الحزبية الموروثة من حقبات الحرب الأهلية. كان ذلك خطأ سياسيًا عملانيًا، وما زال كذلك. رفض نسخة حزبية سالفة لا يعني رفض بناء حالة حزبية جديدة، والاعتراض على الشعار والتنظيم والعلاقات التنظيمية الموروثة.. شَيْء، وبناء النسخة الخاصة وفق المعايير الخاصة الجديدة، شيء آخر. إذن، ومن مدخل “كلّن يعني كلن” الذي استهدف قديم السلطة وقديم المعارضة، كان مطلوبًا استكمال بناء “كلّن يعني كلّن” الذي يعَرِف الجديد المعارض، وينطق باسمه، ويحمل رؤاه إلى الساحات الشعبية المختلفة.

قولٌ كثير يحمل المؤشر العربي الآخرين على قوله، ومهمات كثيرة تنتظر البلاد العربية التي عرض المؤشر أحوالها على عَوامّها، فهل سيكون لصوت المؤشر صدى؟ وماذا عن الرأي اللبناني “الجيّد” حيال ما عرضه المؤشر من أحوال الأوضاع اللبنانية الرديئة؟

المصدر
أحمد جابر - المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى