مقالات

صعود الدولار وسقوط لبنان

قبل ستة أيام وصل سعر الدولار إلى العتبة “النفسية”، التي لطالما استهولها اللبنانيون وحدسوا بها قبل أكثر من سنة، وتداولوها بصيغة السؤال التنبؤي: “هل سيصل إلى 50 ألف ليرة؟”.

وكان يصاحب السؤال تخيّلات متشائمة عن ما سيحدث، لربما فوضى عارمة وصدامات وأعمال شغب، أو حتى “انتفاضة” عفوية وعامة.

في اليوم نفسه الذي حقق فيه الدولار صدمته، قرر النائبان ملحم خلف ونجاة عون، دون سائر زملائهم من “نواب التغيير”، الاعتصام داخل القاعة العامة لمجلس النواب، احتجاجاً على الفشل المستمر والمتعمَّد بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وفي ظنهما أن هكذا خطوة ستسبب “صدمة سياسية” كبيرة، ولربما تؤدي إلى هبة شعبية تجدد الاحتجاج العام وتعبئ الشارع وتحرج الأحزاب والتيارات والكتل البرلمانية، على نحو تكسر فيه هذا الاستعصاء الخانق، والتعطيل القاتل للنظام الجمهوري.

في الوقت نفسه أيضاً، كان الوفد القضائي الأوروبي في بيروت ينبش “الغسيل” الوسخ في جرائم نظامنا المالي كما في الجريمة الكبرى المتمثلة بانفجار المرفأ. وكان هذا العمل الأوروبي دليلاً فاقعاً في اللحظة نفسها ليس على عمق الفساد والاقترافات الفضائحية، مالياً وأمنياً (ناهيكم عن الانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه البلاد) وحسب، بل دليل على فداحة العجز القضائي اللبناني في إنجاز مهمته الوحيدة: كشف الحقيقة والمحاكمة.

وظن كثيرون منّا، أن تداعيات ما يتسرب من التحقيقات الأوروبية وما تحتويه من حقائق مشينة، وهي تشكل عينة عن ما كان يجري طوال سنوات من نهب خرافي، سوف تحدث غضباً عاماً واحتجاجات، أو على الأقل تحرِّك ما يسمى مجتمعاً مدنياً، أو تشعل عاصفة إعلامية إزاء هذا “العار الوطني” الذي صار لصيقاً بالحياة اللبنانية.

مع ذلك لم يحدث شيء. ولا نأمة. خدر ووجوم فقط.

اليوم، إلى حين كتابة هذه السطور، تجاوز الدولار سقف 55 ألف ليرة. العملة الوطنية تتهاوى بسرعة فائقة. المؤسسات التجارية والخدماتية تلجأ إلى حماية نفسها عبر تسعير استباقي للدولار أعلى من السعر المتداول ببضعة آلاف الليرات. أي أن الدولار المعمول به للفواتير وثمناً للبضائع أو الخدمات (الاستشفاء مثلاً) أعلى دوماً من سعر الصرّافين. وهو ما يستنزف أكثر ما تبقى من قدرة شرائية. ثمن صفيحة البنزين وحده قادر على ابتلاع ربع راتب كامل لموظف رسمي. ويترافق مع هذا سلسلة من الأخبار الموثقة عن تهريب الدولارات والوقود والأدوية والمواد الغذائية عبر الحدود، وعن العمليات الكبرى للصرافة المشبوهة التي تجري ابتداء من شوارع صيدا وشتورا وباقي المدن، وصولاً إلى سراديب وخزنات “لا نتجرأ على تسميتها”.

عملية الإفقار تجري بسرعة مدوخة. يخسر اللبناني باليوم الواحد نسبة كبيرة من مقدرته على كلفة العيش. وبزمن قياسي تحول أي مواطن من الطبقة الوسطى من آكل جبنة فرنسية ومالك سيارة دفع رباعي (متوسط سعرها 30 ألف دولار)، وسائح لمرة واحدة في السنة على الأقل، إلى مستوى معيشة العاملة المنزلية التي كانت في منزله (ولم تعد طبعاً).

بمعنى آخر، اقتصادي وسياسي واجتماعي، اللبنانيون يتجهون إلى حضيض يتعمّق كل ساعة. وأكثر السيناريوهات المتشائمة التي تخيّلوها برعب قبل سنة فحسب، يعيشونها الآن باستسلام كامل.

وكل ائتلاف المواد والظروف والوقائع الكفيلة بالانفجار جاهزة.. لكن الهدوء أو حتى “القبول” سائد إلى اليوم.

لا شيء يحدث. ولا نأمة.

عملياً وواقعياً، لم يبق شيء من الجمهورية. لا النظام السياسي ولا القضائي ولا التشريعي ولا المالي. وفوق هذا، وهو الأخطر، لم يبق الكثير مما يجمع اللبنانيين كشعب واحد. والدليل أن لا رغبة لأحد بالاحتجاج. إقرار بقرب النهاية.

المصدر
يوسف بزي - المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى