مقالات

هنا مربط الخيل


لم تستطع جامعة الدول العربية أن توقف حرباً أهلية في أي بلد عربي ولا أن تمنع أي خلاف بين بلدين. أفضل إنجازاتها أنها ما زالت قائمة تنظم مؤتمرات قمة واجتماعات وزارية في الشؤون الخارجية والأمنية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، وتصدر قرارات وتوصيات تبقى غالباً حبراً على ورق.

حرب لبنان “مطّت” 15 عاماً رغم وضع الجامعة ثقلها لحلها، وعندما أزف موعد الحل الذي توافقت عليه قوى متعددة، صعد الدخان الأبيض من مدينة الطائف السعودية وبرعاية ملكية مباشرة أمّنت له الدعم اللازم. الحروب اللاحقة تخطتها بفارق زمني وميداني وسياسي طويل. ليبيا وسوريا والسودان والعراق وتونس والمغرب والجزائر والصومال غرقت في حروب أهلية أو في صراعات جانبية وحدودية، أو في أزمات اقتصادية، لم تستطع الجامعة أن تفعل شيئاً لها. الاقتصاد العربي على شفا هاوية، السوق العربية المشتركة حلم بعيد المنال، شبكات السكك الحديد العابرة للبلدان موجودة في العقول فقط …. وقس على ذلك.

كانت الغاية من إنشائها تعزيز التعاون بين الدول العربية والتنسيق في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية للوصول إلى مرحلة من التكامل (وليس الوحدة، لأن الجامعة قامت على الاعتراف باستقلال الدول وسيادتها الوطنية). لكن النص شيء والواقع شيء آخر. فخلال عمرها المديد (منذ 1945) واجهت الجامعة أزمات كبيرة وانفجارات أكبر بكثير من قدرتها على الفعل والتأثير. كانت صراعات الدول المؤثرة فيها تأكل من رصيدها ومن قوتها. الواقع العربي المتشرذم والمليء بالصراعات والتناقضات الأيديولوجية والسياسية ما كان ليترك لها الفرصة لتلعب دور الجامع ولا دور المصلح ولا دور الحكم. تدخلاتها غالباً لم تكن حاسمة، الحسم كان يأتي من أماكن أخرى، من دول كبرى إقليمية وعربية فاعلة.

انقسمت الجامعة محاور. محور مصري ومحور سعودي ثم محور صمود وتصد ومحور مقاومة ومحور رفض، وفي كل محور محاور أصغر حتى أصبح كل بلد محوراً.

عاقبت الجامعة أنور السادات لزيارته إسرائيل وتوقيعه اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، فنقلت مقرها من القاهرة إلى تونس وسحبت مقعدها منها، وقطعت الدول العربية علاقاتها بمصر، واستمر الأمر على هذه الحال حتى عام 1989 عندما استأنفت الدول العربية علاقاتها بمصر وأعادتها الجامعة، ثم أعادت مقرها إلى القاهرة التي احتضنته من اليوم الأول لولادة الجامعة، وكانت مصر “أم الدنيا”.

وعاقبت الجامعة سوريا الرسمية في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2011، وعلقت عضويتها في مجالسها ونشاطاتها. يومها انحازت الجامعة إلى المعارضة السورية وتبنتها واعتبرتها ممثلاً شرعياً للشعب السوري، خصوصاً قبل مرحلة الانفجار الأمني الواسع، كان موقفاً عاطفياً وسياسياً في آن. ليس سراً أنه جاء بتأثير من دول الخليج العربي التي رأت فرصة للتغيير في سوريا قد تكون لها انعكاسات كبرى في المنطقة، التي كانت تعتمل فيها في تلك الفترة ثورات ومخاضات انتهت إلى ما انتهت إليه.

قرار الجامعة بإعادة سوريا إلى مقعدها، ليس في الحقيقة قرار الجامعة العربية التي يرأس هيكليتها المصري أحمد أبو الغيط. لم يقرر أبو الغيط عودة سوريا، ولا وزراء خارجية لبنان والصومال وجيبوتي وموريتانيا وليبيا وتونس والبحرين.. قرار إعادة سوريا اتخذته دول فاعلة ومقررة. عندما قررت السعودية والإمارات والكويت ومصر والجزائر، وإلى حد ما الأردن وعمان، أن سوريا يجب أن تعود وعادت. البقية إما كانوا في الأصل ضد قرار تعليق العضوية أو غير مكترثين، سواء عادت سوريا أم لم تعد.

لكن عودة سوريا تبقى بلا مردود فعلي إذا لم تكن متلازمة مع خطوات إجرائية تساعد البلد المنكوب على الوقوف مجدداً. لا يكفي ملء المقعد الشاغر، في مقر الجامعة، ولا تفيد العودة إذا كانت للتداول وإصدار البيانات التوفيقية في نهاية كل اجتماع وزاري أو قمة عربية، بيانات غائمة لا تخفي الفشل في الاتفاق على شيء.

عودة سوريا إلى الجامعة هي فعل طبيعي، بعدما انتهت الحرب إلى ما انتهت إليه. الدول تبني سياساتها على الوقائع والواقع، لا على العواطف الشخصية. وواقع الحال أن الحرب في سوريا انتهت إلى هزيمة سوريا كلها. لكن العودة ليست نهاية المطاف. العمل يبدأ الآن والمطلوب كثير، من سوريا ومن الدول العربية، لقد أدت الجامعة قسطها واستضافت اجتماع إعلان العودة، وجاء دور الفاعلين المؤثرين.

صحيح أن سوريا تعاني وضعاً اقتصادياً صعباً نتيجة للحرب والحصار والدمار، لكنها أيضاً تعاني وضعاً سياسياً معقداً جداً، تتداخل فيه المصالح الأميركية والإيرانية والتركية والروسية والعربية والصينية، استثمار العودة إلى الجامعة العربية يتطلب منها فكفكة الكثير من العقد المتشابكة في ما بينها، وهذه مهمة ليست سهلة.

لم تكن العودة لتحصل لو لم ترد دول الخليج العربي حصولها، لا سيما الإمارات العربية المتحدة والسعودية. منهما انطلقت الإشارات الأولى بزيارات لدمشق واستئناف للعلاقات متخطية الاعتراضات الأميركية وتحفظات بعض العرب. وواقع الحال اليوم أن مركز القرار العربي هو في الخليج، وعليه فإن عودة سوريا إلى الجامعة هي عودة الخليج إلى سوريا أو عودة سوريا إلى الخليج.

لا إعمار لسوريا ولا إنقاذ إلا بالمال، والمال لن يأتي لا من إيران التي تضغط حالياً على دمشق لاسترداد أموال قدمتها في الحرب، ولا من روسيا الغارقة في حرب لا نهاية قريبة لها، ولا من الصين التي لا تقدم شيئاً مجاناً. سوريا لن يعمرها إلا العرب، عرب الخليج الذين يملكون المال. وهم بالانفتاح على سوريا وعودتها إلى الجامعة أعطوا مؤشرات إيجابية تجاه دمشق والمشاركة في الإعمار. لكن ذلك أيضاً يحتاج إلى تفاهمات وإجراءات على الأرض وإلى بناء الثقة. لعل الأيام المقبلة تحمل أخباراً سارة لجميع السوريين بلا استثناء، وخصوصاً للمشردين واللاجئين، حتى لا تكون العودة مجرد عودة إلى كرسي.

المصدر
النهار - راغب جابر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى