محلي

زيادة الأجور والدولار الجمّركي… هل فقدت الحكومة السيطرة على اللعبة؟

يصادف اليوم عيد العمّال، ولكن عيدٌ بأي حال عُدت يا عيدُ؟ الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدّي أدّى إلى تراجع كبير في قدرة العمّال الشرائية ودفعت العديد إلى أبواب الفقر في ظلّ شلل سياسي على صعيد إعادة تكوين السلطة التنفيذية وفي ظلّ مخاوف من شغور في السلطة النقدية. فالتضخّم ارتفع إلى مستويات خطّرة خصوصًا مع أرقام جعلت من لبنان يحتلّ المرتبة الأولى في تضخّم أسعار الغذاء مع 261% سنويًا، سابقًا بذلك زيمبابوي والأرجنتين وإيران وتركيا، وهو ما يؤكّد مقولة الاقتصادي الهندي «سنّ» الذي عزا المجاعات إلى نقص المواد الغذائية ولكن أيضًا إلى آليات التوزيع التي تتأثر بالفساد خلال فترات الفوضى السياسية.

عمليًا، ما تقوم به الحكومة هو إدارة حدثية (event-driven) للأمور من خلال اتباعها لدولار السوق السوداء. فالقطاع العام المشلول بالإضرابات، يرى الزيادات التي تقوم بإعطائها الحكومة، تذهب مع ارتفاع السوق السوداء و/أو مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية (من دون مبرّر) والمحروقات والأدوية. وبالتالي فإن مداخيل الخزينة العامة انخفضت إلى أدّنى مستوياتها نتيجة تعطيل المرافق العامة، وأصبح المدخول محصورا بشكل أساسي بمداخيل الاتصالات والمرفأ والكهرباءالتي تمّ تسعيرها على منصة صيرفةالتي بدورها تتبع دولار السوق السوداء. وبالتالي، ومع ضعف المداخيل الناتجة من نشاط اقتصادي داخلي (Domestic Production) بحكم استخدام الكاش، لا يصحّ قول الحكومة انها تموّل زيادات القطاع العام من خلال مداخيل فعّلية، بل من خلال إضعاف العملة اللبنانية والسماح بالتداول بالكاش، وهو ما يؤدّي إلى نتيجة من اثنتين: أو طبع العملة أو استنزاف الدولارات في مصرف لبنان وكلاهما خيار سيىء!

هذه الدوامة بدأت تأخذ أبعادًا خطرة مع ارتفاع وتيرة الزيادات (التي تذهب مع ارتفاع الدولار في السوق السوداء) ومع تغلّغل التضخم في ظل غياب الرقابة على أسعار السلع، خصوصًا المواد الغذائية والأدوية والمحروقات التي تستهلك القسم الأكبر من المداخيل. هذا الأمر فرض الطلب من مصرف لبنان التدخّل للمحافظة على استقرار في سعر الصرف في السوق السوداء وهو ما يتمّ إمّا من باب ضخّ الدولارات أو سحب الليرة اللبنانية من السوق. الخيار الأول – أي ضخّ الدولارات أثبت محدوديته (كحلّ وحيد) بحكم تهريب الدولارات مباشرة أو من خلال السلع والبضائع، أمّا الخيار الثاني فتحقيقه يتطلّب حكمًا تنفيذ الخيار الأول وبالتالي هذا ما قام به مصرف لبنان من خلال دفع أجور القطاع العام بالدولار على منصة صيرفة وفي الوقت نفسه الاستمرار في التعميم 161 بالموازاة مع قرار وزير المال إلزام التجار دفع الرسم الجمركي والضريبة على القيمة المضافة بالكاش، مما يُلزم هؤلاء بصرف الدولار في السوق السوداء نظرًا إلى حجم الرسوم والضرائب بالليرة اللبنانية. وهو ما يدفعنا إلى القول ان هذه الوضعية مهدّدة بالانهيار إذا ما برزت أحداث سياسية أو قضائية أو تجارية مفاجئة.

إلا أن هناك سؤالا جوهريا يجب على الحكومة الردّ عليه: هناك ما يقارب الـ 64 تريليون ليرة لبنانية بالتداول في السوق، من يمتلك هذه الليرات خصوصًا أن موظّفي القطاع العام (ربع الموظّفين في لبنان) يقبضون رواتبهم بالدولار الأميركي وموظفي القطاع الخاص يقبضون قسما مهما من أجورهم بالدولار الأميركي؟ المخاوف من أن تكون هذه الأموال في يدّ بعض الأشرار الذين يتربصون لضخّها في السوق في اللحظة التي تناسبهم!

في المقابل، المودع الذي لا يزال يسحب مدخراته بالعملات الصعبة بالليرة اللبنانية على 15% من سعر السوق، يتعرّض لضرر كبير أقلّه من باب تحميله خسارة هائلة عوضها بقسم التعميم 158. وبالتالي فإن التضخّم الحاصل اليوم يزيد من الضغوطات على السلطات النقدية لرفع الدولار المصرفي للتخفيف من هذا الضرر على المودع.

مصرف لبنان الذي لا يستطيع أن يموّل رفع الدولار المصرفي إلى منصة صيرفة بحكم التضخم الذي سيحصل، يدرس حكمًا إمكان إيجاد سعر يخفف من الضرر على المودعين وفي الوقت نفسه لا يضرب الليرة اللبنانية. وهنا تظهر الصعوبة في تحديد هذا السعر الذي مع رفعه ستخفّ قيمة السحوبات بالدولار الأميركي (سقف للسحوبات) نظرًا إلى الضخ الذي سينتج منه بالليرة اللبنانية. وإذا كانت المعلومات الصحافية تتحدّث عن 35 ألف ليرة لبنانية كسعر للدولار المصرفي، إلا أن هذا الرقم يبقى مرهونًا بالتضخم وبسعر السوق السوداء الذي يفرض حكمًا خفض سقف السحوبات.

إذًا حلول عيد العمّال هذا العام هو أكثر لحظات حسرة على الماضي من احتفال بعيد. هو حسرة على فترة كان فيها الحدّ الأدنى للأجور يوازي الـ 450 دولارا أميركيا في حين أنه أصبح بأحسن الأحوال يوازي عشرة دولارات مع إقرار الحكومة بشكل صريح أن ما تُقدّمه للموظفين في القطاع العام هو مساعدات وأجور موظّفي القطاع الخاص لا يتمّ التصريح بها كلها للضمان. هذا الواقع يقضي على مفهوم له قدسية أرسته الكتب السماوية، ألا وهو العمل. فهذا الأخير هو مفهوم العمل من التعاليم الدينية التي تنصّ على أن الله عَزَّ وجَلّ خلق العالم بستّة أيام وارتاح في اليوم السابع. وهو ما يدفع من يستطيع الهجرة إلى ترك البلد بحثًا عن بلدٍ يقدّر فيه العمل ويستطيع تأمين لقمة عيشه وعائلته.

إذًا من الواضح أنه وبغياب الإصلاحات فإن الوضع يتجّه إلى الأسوأ، خصوصًا أن المسؤولين في لبنان لا يعون (أو لا يريدون أن يعوا) خطورة استمرار تغلّغل التضخم وباعتقادهم أنه بمجرد القيام بإصلاحات والاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فإن الأمور ستتحسن تلقائيًا! لا يا سادة التضخّم سيرافق لبنان لفترة طويلة وستكون تداعياته كارثية على الأجيال المستقبلية لأن معادلة إسقاط الدين العام لمصلحة التضخّم، ستنقلب في المستقبل الى معادلة محاربة التضخم لمصلحة الدين العام!

المصدر
جاسم عجاقة - الديار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى