مقالات

مشروع موازنة 2024 بين الرفض والقبول… “الدولرة شرّ لا بدّ منه”

لأن “الحاجة أم الاختراع” اخترعت وزارة المال موازنة الحاجة. الحاجة إلى الكثير، لا فقط الى المزيد، من الرسوم والضرائب بالليرة اللبنانية، لتمويل الكتلة الضخمة للرواتب والأجور، ومستلزمات الإدارة العامة، ومصاريف الدولة. الحاجة أيضاً إلى الدولار “الفريش” لاستخدامه في تمويل التخلص المتدرج من التضخم عبر دفع رواتب القطاع العام والمتقاعدين بالدولار على سعر صيرفة وتوفير ضخ ما يقرب من المليارات بالليرة نقداً في السوق شهرياً، مع ما يمكن أن تسببه من تداعيات سلبية على سعر الصرف. كما تحتاج الدولة إلى جني دولاراتها بنفسها، والتوقف عن مد يدها الى بقايا الاحتياط (أو بقايا الودائع) الموجودة في مصرف لبنان، لإبقاء بصيص الأمل بعودة الودائع لأصحابها ممكناً وواقعياً. ولا تتوقف حاجة الدولة أيضاً عند ضرورة تأمين سيولة نقدية بالدولار لتسديد أثمان وأكلاف الصيانة في المؤسسات العامة لتأمين ديمومة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء، والماء، والهاتف، وغيرها…

في طريقها الى إعادة التوازن المطلوب للمالية العامة، ارتكبت الحكومة أخطاءً وهفوات، فيها الأخلاقي كالضريبة المعيبة على أموات المغتربين، وفيها غير العادلة، كإجازتها دفع بعض الضرائب الدولارية من الحسابات المفتوحة قبل 18 تشرين الأول 2019، في ما صار يعرف بالدولار المصرفي (اللولار)، واحتسابه على سعر يعادل 40% من دولار صيرفة.

ولكن، ما بين حاجة الدولة الملحة إلى السيولة والتمويل، ووجود موازنة تعيد الانتظام الى آليات الصرف والتحصيل الضريبي، من جهة، وما بين الضغوط التي يعاني منها الاقتصاد المنهار بكافة قطاعاته، والمواطنين المنهكين من تداعيات سقوط الليرة، تبقى الحاجة الأكبر لدى الدولة صناعة نظام ضريبي حديث، يراعي الحاجات والإمكانات على حد سواء، ويعيد تصفير العجز في ميزان المدفوعات، وصناعة ظروف تعيد إطلاق عجلة النمو.

يسود الارتباك والتردد المعنيين كافة في تحديد الموقف العام من #مشروع موازنة 2024. مرد الارتباك ليس في وجود كم هائل من البنود الضريبية، بل إلى التبدل الجذري والتحول التاريخي والاستثنائي الذي يحصل في تاريخ كتابة موازنة عامة في لبنان، وربما في العالم، إذ لم يعرف عن حكومة في هذا الكون الفسيح أن فرضت ضرائب ورسوماً بغير عملتها الوطنية، وبأسعار صرف متعددة.

ولكن بما أن لبنان يعيش أوضاعاً استثنائية، يمكن تبرير هذا الإجراء. فالتجار والمستوردون يسددون الرسوم الجمركية ورسوم الاستيراد بالليرة اللبنانية وبأسعار متدنية، فيما يفوترونها على المستهلكين بالدولار أو على سعر صرف مرتفع. لذا يعتبر مدير الواردات والضريبة على القيمة المضافة لؤي الحاج #شحادة أن “فرض الرسوم بالدولار على التجار والمستوردين بالدولار هو تحصيل حاصل خصوصاً أن المستورد يسدد ثمن السلع والتأمين والشحن من الخارج بالعملة الأجنبية، وتالياً إذا دفع الرسوم للدولة بالدولار، فإنها ليست بالكارثة الكبرى في ظل حاجة الدولة للعملة الصعبة مع تراجع التحويلات من الخارج” فهدف وزارة المال “ليس كسب الأموال، بل المحافظة على استقرار اقتصادي ومالي وتفادي الانهيار، وذلك في ظل حاجة الدولة الى أموال غير قادرة على تأمينها، فيما مصرف لبنان أعلنها صراحة أنه لم يعد في مقدوره تأمين احتياجات الدولة ومؤسساتها بالدولار”، مشدداً على أن “الدولة في حاجة للدولار، لكي تستورد احتياجاتها التي من ضمنها حاجات وتجهيزات القوى العسكرية ولمؤسسة الكهرباء”.

فما هي الرسوم والبدلات التي ستُستوفى بالعملة الأجنبية؟ الموازنة التي أخذت في الاعتبار أن مصرف لبنان سيحدد سعر الصرف الذي سيعتمد، الرسوم ستشمل الحصص والأرباح التي تعود للدولة اللبنانية من استخراج النفط ومشتقاته وبيعه، وإيرادات ألعاب الكازينو بالعملة الأجنبية، وحصة الدولة من الشراكات مع القطاع الخاص، والضريبة المتوجبة بموجب أحكام المادة 51 من القانون 497، أي القانون المتعلق بتسديد ضريبة الفوائد، والضريبة المتوجبة على إيرادات رؤوس الأموال المنقولة الأجنبية. كذلك ستسوفى الرسوم والضرائب والرسوم بالدولار من الشركات صاحبة الحقوق البترولية والشركات صاحبة الحقوق البترولية المشغلة، إضافة الى رسوم المغادرة عن المسافرين بحراً وجواً، والرسوم القنصلية، ورسم الاستهلاك الداخلي عند الاستيراد، والرسوم التي تستوفيها مؤسسة كهرباء لبنان، ورسوم المطارات والمرافئ، والضريبة على القيمة المضافة المتوجبة على رسوم المطارات، والضريبة على القيمة المضافة التي سدّدها السائح لأصحاب المحال المتعاقدة مع وزارة المال عن مشترياته داخل الأراضي اللبنانية، ويطلب استردادها وفقاً للأحكام الخاصة باسترداد الضريبة.

كذلك تشمل رسوم الإقامة لحاملي إجازات العمل من الفئات كافة، وغيرها من الرسوم والسمات والغرامات التي تستوفيها المديرية العامة للأمن العام التي يحدد استيفاؤها بالدولار الأميركي بموجب مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء.

ولكن شحادة ينتقد عدم تعديل مواد في الموازنة، ومنها ما يتعلق بعدم إدراج قيمة أسهم الأشخاص الذين يملكون حصصاً في شركات offshore في تركتهم، مؤكداً محاولته تعديل هذه المادة مرات عدة إلا أنها تلغى في مراحلها الاخيرة، بحجة الأوضاع الاقتصادية ووجوب المحافظة على الاستثمار.

الى ذلك، استحدث مشروع قانون موازنة 2024 رسماً جديداً تحت اسم رسم بدل خدمات سريعة وطارئة يسمح للمواطن بأن يدفع مبلغاً إضافياً من المال لإتمام معاملته في وقت سريع وذلك أسوة بما يُطبّق في المديرية العامة للأمن العام في موضوع جوازات السفر السريعة.

من وجهة نظر شحادة فإن هذا الرسم يمكن أن يقضي على الفساد بنسبة 60%، لافتاً الى تفاقم أوضاع الموظفين بعد عام 2019. فقبل هذا التاريخ كان الوضع مختلفاً، إذ كان راتب الموظف يكفيه نوعاً ما، وتالياً إذا ضبط بتهمة الفساد أو الرشوة، كان في الإمكان وقفه عن العمل واستجوابه. أما اليوم فإن أقصى ما يمكن فعله هو أن نطلب منه تقديم استقالته من دون اتخاذ أي إجراء في حقه”.

ويقول “إذا تركنا الوضع على حاله من دون اللجوء الى تدبير المعاملات السريعة والطارئة، فإنه لا يمكن أن نضمن عدم خضوع المعاملة لمزاجية الموظف الذي يمكن أن يضعها في الأدراج بحجج عدة، بغية إحراج المواطن وإجباره على دفع مبالغ إضافية لتسهيل إجراء معاملته. ولكن مع رسم بدل خدمات سريعة وطارئة، أصبح الموظف ملزماً بإنجاز المعاملات تحت طائلة الملاحقة القانونية”.

مذا عن مصير المعاملات العادية؟ يؤكد شحادة “تبقى المهلة العادية لإنجاز العاملات، هي المهلة العادية للإنجاز، ويلاحق الموظف وادارته إذا ثبت التلكؤ في إنجازها”.

من المبررات التي يوردها شحادة لاستحداث هذا الرسم، أن الحكومة ليست في وارد زيادة رواتب موظفي قطاع العام، فيما الواقع أن أي زيادة كالتي حددها القطاع الخاص لموظفيه ستكلف الحكومة مبالغ لا طاقة لها على تحملها. إضافة الى ذلك، ثمة الكثير من المواطنين لا يتحملون انتظار أشهر لإنجاز معاملتهم، وعلى استعداد لتسديد أي مبلغ لقاء إنجازها بسرعة. في المقابل، يرى شحادة أن رسم الإجراء السريع سيشجع الإدارات وموظفيها على العمل، خصوصاً في ظل عدم قدرة الدولة على زيادة رواتبهم. ولا يغفل شحادة الإشارة الى أن “نوعية المعاملات وتحديد رسم المعاملات السريعة الذي يجب أن يستوفى منها، فمعاملات الإنشاءات مثلاً لمبنى جديد لن تكون مماثلة لرسم القيمة التأجيرية لوحدة سكنية مساحتها بين 100 و150 متراً مربعاً”.

جاء في المادة الحادية والعشرين من الموازنة العامة أن “إيرادات هذا الرسم توزع بين أصحاب العلاقة: 50% لموظفي الإدارة المعنية، 5% لموظفي الهيئات الرقابية، 10% لموظفي الإدارات العامة التي لا تقدم خدمات، 15% لصندوق تعاضد موظفي الإدارات العامة، و20% للخزينة العامة”. شحادة يشرح سبب تخصيص نسبة معينة من الإيرادات للإدارات التي لا تنجز معاملات للمواطنين مثل التفتيش المركزي وهيئات الرقابة والأمانات العامة لرئاسة الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء، آخذاً في الاعتبار إعادة دورة العمل للإدارة، إضافة الى تأثير الجانب الاجتماعي والأوضاع المعيشية للموظفين على استمرارية عملهم في غياب المعالجة الحقيقية من الدولة اللبنانية للعاملين في القطاع العام.

وفي ظل غياب آلية الرقابة والتدقيق، ثمة تخوّف من خضوع هذا الإجراء لاستنسابية بعض الموظفين الذين يمكن أن يستخدموها لمصلحتهم، فهل من يراقب؟ يقول شحادة “عندما حددنا نسبة معينة من إيرادات الإجراء لأصحاب العلاقة، وضعنا الهيئات الرقابية التي من ضمنها التفتيش المركزي في مقدم المستفيدين، وذلك بغية إعادة تفعيل عملهم، بالإضافة إلى الرقابة التسلسلية التي يفترض أن تتم من الإدارة المعنية”.

المصدر
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى