في “جمهورية نزيهة”: وراء كلّ عهد “عظيم” متعهّد كبير
عرفت الجمهورية اللبنانية وسيطَيْن: الأوّل بقي مطموراً في دفاتر الدستور ألا وهو «وسيط الجمهورية» الذي يوفّر التواصل بين الإدارة والمواطن. هذا المولود لم يرَ النور. اسمه طيّ الكتمان، غير مألوف على مسامع الناس وألسنتهم. أمّا الثاني، فملأ الدولة وشغل طرقاتها وبنيتها التحتية والخدماتية، فكان «الوسيط الأمين» بين القيّمين على البلاد ومشاريعهم، حتى صحّ القول إنّ وراء كل عهد «عظيم» متعهّداً كبيراً. شركات انطبعت في ذاكرة اللبنانيين ورافقت يومياتهم. أعمال طالت النفايات والمطامر، السدود والطرقات، المرفأ والمطار. تحت الأرض وفوقها وما يدور حولها.
لم ينطبع في ذاكرة اللبنانيين وحياتهم اليوميّة أكثر من الشقيقين «سوليدير» و»سوكلين» منذ التسعينات، مع العهد الأوّل من الجمهورية الجديدة. إثر انتهاء حرب المدفع والنار بين اللبنانيين وعليهم، برز أول نقاش غير سياسي بعد الطائف. تمحور حول المخطّط التوجيهي لإعادة بناء بيروت، فكانت «الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط مدينة بيروت» (سوليدر) التي أخذت على عاتقها إعمار العاصمة. ودخلت حيّز التنفيذ مع صدور القانون رقم 117 /91 عن المجلس النيابي في كانون الأول عام 1991 مشرّعاً عملها، ثم تتالت بعده المراسيم التطبيقية تباعاً مكرّسة سلطة الأمر الواقع. أعادت الشركة بناء أسواق المدينة في موقعها التاريخي سابقاً بحلّة جديدة ومستحدثة، محافظةً على روحيّة الأسواق القديمة. كما حقّقت سلسلة من المشاريع التطويرية والنموذجية، جاعلة من بيروت موقعاً مميّزاً ونقطة جذب للإستثمارات. غير أنّها دخلت في نزاعات قانونية وسياسية ومالية مع بعض المالكين.
أمّا «سوكلين»، فبدأت قصّتها عام 1994، حين تولّت مجموعة Averda (أي سوكلين وسوكومي) كنس ومعالجة النفايات وطمرها ضمن بيروت و225 بلدة وقرية في محافظة جبل لبنان، وصولاً إلى زغرتا كجزء من عملية إعادة إعمار البلد. هاتان الشركتان المملوكتان لشخص ميسرة سكّر، وقّعتا في حينها العقد الذي يتضمّن تأمين الدولة المطمر والآليات وبمقابل 4 ملايين دولار، غير أنّ هذا المبلغ أخذ يرتفع جنونيّاً (كالليرة اليوم) ليصل إلى 102 مليون دولار عام 1996، ليسجّل بعده 128 مليون دولار سنويّاً (بحسب تقرير الدولية للمعلومات)، مترافقاً مع تمديد مستمرّ لهذه الشركة كلّما انتهى العقد، أو بالأحرى كلّما تبدّلت العهود والحكومات والوزراء. طوال 21 عاماً تربّعت «سوكلين» على عرش القمامة المطمورة بلا حسيب أو رقيب. إلى أن انفجرت أزمة النفايات سنة 2015، وانتشرت في الأحياء والشوارع، ولا يزال هذا الملفّ مشرّداً على قارعة الطريق ومركزية الدولة العاجزة والفاشلة حتّى عن معالجة «الزبالة».
من سكّر إلى العرب
مع تحوّل بيروت من «عروس الشرق» إلى مقرّ للنفايات، وفضّ الدولة عقدها مع «سوكلين» بعد احتجاجات شعبية وسياسية هزّت البلاد، بدأ زمن جهاد العرب كمتعهّد جديد في جمهورية «نزيهة» و»أم شريف». إذ أعلن مجلس الإنماء والإعمار في الأوّل من أيلول عام 2016، نتائج مناقصة فرز النفايات المنزلية ومعالجتها، ففازت شركة «جهاد العرب للمقاولات» بمناقصة تلزيم أعمال فرز النفايات المنزلية لبيروت وجبل لبنان ومعالجتها، باستثناء جبيل، حتى سنة 2021 مع إعلان صاحب شركة «الجهاد للمقاولات اللبنانية» جهاد العرب، إقفال جميع أعماله في لبنان، متمنّياً على مجلس الإنماء والإعمار «الإسراع في القيام بالإجراءات اللازمة لتأمين الشركات المناسبة لاستلام الجزء المكلفة به شركتنا في ملف النفايات بأقرب وقت ممكن». عُرف الرجل بقربه من رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري. وطارت شهرته بعد إلحاقه بسجلّ العقوبات الأميركية (2021). وأوضحت وزارة الخزانة الأميركية في بيان مفصّل نُشر على موقعها أن «العرب هو رجل أعمال ثريّ ساهم في انتهاك سيادة القانون في لبنان». كما أشارت إلى أنه «ربح عقوداً وصفقات عامة بسبب علاقات وثيقة كانت تربطه بالطبقة السياسية ومقابل دفع رشاوى إلى مسؤولين في الحكومات». إلى ذلك، ذكرت الوزارة الأميركية أن شركته فازت في عام 2018 بعقد قيمته 18 مليون دولار لإعادة تأهيل جسر في بيروت، على الرغم من كافة الانتقادات السابقة المتعلّقة بكلفة المشروع وسلامته. كذلك، حصد رجل الأعمال عام 2016، عقداً بقيمة 288 مليون دولار من مجلس الإنماء والإعمار (CDR) لبناء مكبّ نفايات بعد انسداد شوارع بيروت بالقمامة، إلا أن أزمة النفايات سرعان ما عادت لتضرب العاصمة والبلاد».
كما العرب كذلك خوري
لم ينجُ واضعو «الإبراء المستحيل» من «نِعَم» المتعهّدين. دخل «سيّد السدود» داني خوري معترك «التعهّدات الجمهورية». ففي عام 2016، حصل مثلاً على عقد بقيمة 142 مليون دولار من مجلس الإنماء والإعمار لتشغيل مطمر برج حمود. إلا أنه اتُهم لاحقاً بإلقاء النفايات السامة في البحر الأبيض المتوسط، وتسميم الثروة السمكية، وتلويث شواطئ لبنان. كما فشل فشلاً ذريعاً في معالجة أزمة النفايات. خوري المعروف بقربه من رئيس «التيّار الوطنيّ الحرّ» جبران باسيل، (على الرغم من إنكار الأخير ذلك) خالف بدوره القوانين وساهم في انتهاك سيادة القانون في لبنان بحسب الإدارة الأميركية. إذ حصلت شركته «خوري للمقاولات» بسبب علاقته بباسيل (المعاقب بدوره أميركيّاً)، على عقود عامة كبيرة جنت له ملايين الدولارات بينما فشل في الوفاء بشروط تلك العقود بشكل واضح. كما أنّ خوري هو متعهّد «سدّ بسري» المثير للجدل والذي تحوّل إلى قضية رأي عام بعد معارضة شعبية عريضة ومنظّمات بيئيّة وحقوقيّة. وخوري هو المتعهّد الرئيسي لمشروع سدّ بقعاتا حيث بدأت شركته بأعمال الحفر والبناء دون إجراء دراسة تقييم أثر بيئي، في مخالفة فاضحة للقوانين. ويذهب البعض إلى وصفه بأنه «صاحب أمبراطوريّة مقاولات نهشت عدداً من جبال لبنان وأوديته وطمرت بحره بالنفايات».
إلى المطار دُر
رغم تاريخ الجمهورية الأسود وما حصل من انتفاضة شعبية، ووضع لبنان على قائمة الدول الأكثر فساداً، تستمرّ المنظومة السياسية بقدرتها الهائلة على عقد الصفقات المطعّمة بالنكهة السياسية، ولهذه المرحلة نكهتها الفرنكوفونية، عبر شركة CMA CGM (رئيسها التنفيذي رودولف سعادة). ففي العام 2022، تمكّنت شركة CMA Terminals من الفوز في مناقصة إدارة وتشغيل وصيانة محطّة الحاويات في مرفأ بيروت لمدّة 10 سنوات، بدأت في آذار من العام نفسه. وعملت الشركة التابعة لمجموعة CMA CGM الفرنسية العاملة في مجال النقل البحري والخدمات اللوجستيّة، على وضع خطة استثمار لتجديد المحطة وتحديثها، عبر استثمار 33 مليون دولار، منها 19 مليون دولار خلال العامين الأوّلين. ولمجموعة CMA CGM روايتها. انطلقت من لبنان منذ 43 عاماً. في إطار دورها الرئيسي في دعم مختلف القطاعات وخلق فرص عمل، استحدثت CMA CGM نحو 800 وظيفة في لبنان في غضون عامين، وأصبحت المجموعة تضمّ نحو 1000 موظّف في لبنان، إضافة إلى خلق 400 فرصة عمل أخرى في السنوات المقبلة. وبالأمس دخلت الشركة مجال الخدمات البريدية، الذي تربّعت عليه شركة «ليبان بوست» لأكثر من ثلاثين عاماً. اذ أعلن وزير الاتصالات جوني قرم «أنّه بتاريخ 30/3/2023 تقدّمت شركة «ميريت» بالائتلاف مع Coliprivé المملوكة كاملاً من غروب CMA CGM الفرنسي وفقاً للأصول في الساعة 8 و45 دقيقة، وعلى هذا الأساس هناك شركة واحدة تقدّمت وعرض واحد مقبول من قبلنا إذا كان مستوفياً الشروط». أمّا في قضية مبنى «المسافرين 2» بمطار رفيق الحريري الدولي، ففاحت رائحة الشبهات مجدّداً قبل فرملة الصفقة وتراجع الحكومة عنها تحت الضغط. إذ لم يُعرض دفتر الشروط على الرأي العام، ولم تجرِ مناقصة لتلزيم شركتي DAA الإيرلندية وLAT، ما طرح شكوكاً حول شبهات فساد بسبب إبرام العقد بالتراضي، وتغييب هيئة الشراء العام عنه، ما يفقده مبدأ الشفافية والحفاظ على المال العام. وكانت ثمّة بنود مشبوهة، منها مدّة العقد التي ستستمرّ 25 سنة، وستستفيد الشركة خلالها بمئات ملايين الدولارات من دون أن تستفيد الدولة سوى من التشييد المجاني، وبعض الأرباح الجانبية وغير المباشرة.
في الخلاصة، إذا كان مصطلح «جمهورية الموز» الساخر يُطلق للإنتقاص من الدول الخفيفة وليس لها أي ثقل سياسي أو اقتصادي ولا تنتج سوى الموز، فماذا نطلق على دولة ضاقت بها الصفقات التي لا تكفي لملء الصفحات. من الشمال إلى الجنوب وعلى طول امتداد الخريطة. شبهات وفساد وسرقات. شركات وأسماء وأمبراطوريات فاقت ميزانيتها خزينة الدولة. هذه كانت عيّنة بسيطة عن «جمهورية نزيهة». لا تكفي السطور للحديث عن صناديق أفرغت جيوب الدولة، من «المهجّرين» إلى «صندوق الجنوب» ومجلس الإنماء والإعمار، إلى شركات الترابة والنفط والغاز… جوع عتيق وشهية مفتوحة حتّى القضاء على آخر ذرة خجل وأخلاق مفقودة لدى القيّمين على مقدّرات البلاد وناسها.