الصحف

قصة الفيول العراقي من “ألفها” إلى “يائها”

منذ بدء الأزمة اللبنانية، شكّل الفيول العراقي المنفذ الوحيد الذي جنّب لبنان ساعات تقنين طويلة، بدت محتّمة، وخصوصاً مع إنعدام الحلول البديلة التي إشترطت أولاً عملية إصلاح شاملة في القطاع، بالإضافة إلى رفع العراقيل «الدولية» من أمام إستجرار الكهرباء من الأردن أو الغاز من مصر.
ترجم تدفق هذا الفيول عبر الإتفاقية الموقعة بين البلدين، قراراً سياسياً بالوقوف إلى جانب لبنان في محنته. فلقي الأمر ترحيباً دولياً، مقابل تحمل العراق «المخاطر العالية» الناجمة عن توريد كميات من ثروته «السوداء»، لبلد مأزوم بكهربائه ودولاراته وفساده.

رتّب سريان الإتفاقية حتماً مسؤوليات مالية على لبنان. إلا أن اليد الممدوة للإستعانة بالفيول العراقي، بقيت مقصرة في تسديد ثمن كمياته التي ستبلغ من نهاية مرحلة التمديد الثانية نحو 3.5 ملايين طن من الفيول، بالإضافة الى مليوني طن من النفط الخام. الأمر الذي يضع مستقبل الإتفاقية الممددة مرتين، على محك الإجراءات العملية التي سيتخذها لبنان لتسديد الموجبات عليه. فالعراق، المأزوم إقتصادياً أيضاً، لا يبدو مستعداً لتبديد كميات النفط الموردة إلى لبنان، مقابل لا شيء. وهذا ما يجعل منها ديناً متراكماً، قدرت مصادر مطلعة قيمته حتى الآن بنحو ملياري دولار. فيما آلية تسديد هذا الدين لا تبدو واضحة حتى الآن.

إرتبطت ضمانات حقوق العراق المستحقة من خلال الإتفاق الموقع منذ تموز 2021، بحساب إعتماد مستندي غير معزز، فُتح في مصرف لبنان لصالح البنك المركزي العراقي، نيابة عن شركة تسويق النفط العراقية SOMO الموردة للنفط. وهذا ربما ما يجعل الجانب العراقي واثقاً بأنّ وديعته ستبقى بـ»الحفظ والصون» في حساب خاص فُتح بمصرف لبنان بالتزامن مع توقيع إتفاقيته مع لبنان.

مضامين الإتفاقية

أما أبرز بنود هذه الإتفاقية، فقد نصت على ما يلي:

  • يتم اعتماد سعر الطن المتري لزيت الوقود الثقيل وفق السعر الذي تعتمدة شركة تسويق النفط العراقية (SOMO) في شهر قبول ترشيح الشحنة للتحميل والمحدد في عقد الشراء الموقع بين شركة تسويق النفط العراقية (SOMO) والجهة الحكومية اللبنانية، وتكون عقود الشراء جزءاً لا يتجزأ من هذا الاتفاق.
  • يتم التعامل مع حساب الإعتماد المستندي المفتوح لصالح البنك المركزي العراقي نيابة عن شركة تسويق النفط العراقية SOMO، كوديعة مصرفية لمدة سنة واحدة، تجدد تلقائياً بإتفاق بين الطرفين.
  • يستخدم الجانب العراقي، حصراً، رصيد الحساب اعلاه كلياً أو جزئياً وفقاً للآلية التي سيتم الاتفاق عليها مع الجانب اللبناني، لغرض شراء السلع والخدمات لصالح الوزارات والمؤسسات العراقية، على ان يضمن مصرف لبنان إستلام الجهات اللبنانية التي تقدم الخدمات للجانب العراقي مستحقاتها باستخدام أوامر الدفع، أو نقدا بالعملة المحلية عند الطلب، ومن الرصيد المتجمع في حساب البنك المركزي العراقي المفتوح لغرض تنفيذ هذا الاتفاق لدى مصرف لبنان.

إذا هي إتفاقية نفط عراقي مقابل خدمات وسلع لبنانية. تتضمن تسديد ثمن هذه الخدمات والسلع لمصدريها اللبنانيين، من «وديعة العراق» في مصرف لبنان، على أن يكون الدفع بالليرة اللبنانية.

لم تتبدل هذه الآلية إثر تجديد العقد مرتين متتاليتين، وحتى بعد رفع الكميات الموردة من مليون طن في السنة الأولى إلى مليون ونصف الطن في الإتفاقية المجددة عام 2023. وبينما كان يفترض أن يبدأ تنفيذها في نهاية السنة الأولى من الإتفاق، بقي الأمر مؤجلاً. فتطبيق الآلية سيحتاج لمزيد من الصبر. ولكن طبعاً للصبر حدود.

الإصلاحات كتطمينات

خلال المفاوضات الاخيرة التي خيضت لتجديد إتفاقية النفط مقابل الخدمات سنة ثالثة، تحول دين لبنان مقابل الفيول العراقي ورقة ضاغطة. وقد بدا نجاح لبنان أو فشله في تطبيق الشق المتعلق من واجباته في الإتفاق، كعامل أساسي سيحدد موقف العراق المستقبلي من الإستمرار بتجديد الإتفاقية. أما تطمينات لبنان للجانب العراقي، فقد جاءت عبر تظهير الخطوات الإصلاحية التي بدأت تتخذ على صعيد تأمين التغذية الكهربائية، وأبرزها ما يتعلق برفع الدعم عن فاتورة المواطنين، وتحسين جبايتها، والذي بدأ يؤمن الواردات لمؤسسة كهرباء لبنان.

مصادر في مؤسسة كهرباء لبنان أكدت لـ»نداء الوطن» أنّ الخطة الإصلاحية بدأت تعطي نتائجها فعلاً. ولدى المؤسسة رصيد بمبلغ 30 مليون دولار حالياً في مصرف لبنان، وهي تتوقع إيرادات بمبلغ 100 مليون دولار من الإدارات والمؤسسات العامة المتخلفة عن الدفع منذ العام 2021، وأن تتوسع دائرة التحصيلات في الفترة المقبلة، بما يؤمن تغطية جزء من تكلفة الفيول العراقي، على أن يُسدد جزء آخر مباشرة من الخزينة العامة.

قرار سياسي أولاً

ما يعني العراق من هذه الإصلاحات، ترجمتها في آلية الدفع المتفق عليها، والتي إستغرقت جانباً كبيراً من النقاشات بدأت منذ إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. بدت موافقة العراق على هذه الآلية جزءاً من قرار سياسي إتخذته «للوقوف إلى جانب الشعب اللبناني الشقيق». وقد ظهّر الدور الذي لعبه مدير عام الأمن العام السابق حينها عباس إبراهيم المعالم السياسية لهذا الإتفاق. والأخير إرتبط بعلاقات شخصية جيدة مع رئيس الوزراء العراقي حينها مصطفى الكاظمي، ما سمح بتدخله عدة مرات لتذليل عقبات واجهت توقيع الإتفاقية، وخصوصاً لجهة التشدد الذي أبداه وزير المالية العراقي مدعوماً من شركة تسويق النفط العراقية «سومو» حينها، وإصراره على دفع ثمن الفيول بالدولار، مع تعديلات طلبت تسديد ثمن الشحنات الموردة فوراً، وتحديد الكمية الموردة سنويا بـ500 ألف طن فقط.

خاضت المفاوضات النهائية للإتفاقية حكومة حسان دياب ووزيرا الطاقة فيها ريمون غجر والمالية غازي وزني، إلا أن ثمارها قطفت من قبل حكومة نجيب ميقاتي. ومع إبرام عقد الإتفاقية بصيغته المعمول بها في الأول من ايلول من العام 2021، بقي الفيول العراقي وإستقدامه البند الوحيد الذي طبق من البيان الوزاري لحكومة ميقاتي في ما يتعلق بالحلول الجذرية لمشكلة الكهرباء. أما «تنويع مصادر الطاقة» و»إعطاء الأولوية للغاز الطبيعي والطاقة المتجددة» و»إنشاء معامل توليد الطاقة الكهربائية بمشاركة القطاع الخاص» فبددها تحول الحكومة إلى تصريف الأعمال.

الـswap كجزء أساسي من الإتفاقية

في 18 أيلول وافق مجلس الوزراء على العقد النهائي المبرم لإستقدام الفيول العراقي. وفوّض وزير الطاقة وليد فياض التوقيع على الإتفاقية على صعيد التسوية. حددت مهلة هذا العقد بسنة واحدة تبدأ من الأول من أيلول وتنتهي في 30 تشرين الثاني من العام 2022. وتضمن توريد كمية مليون طن متري من مادة زيت الوقود الثقيل تقسم بمعدل شحنة واحدة شهرياً، يتم مبادلتها بمادتي الغاز والفيول أويل بنوعية A، B لصالح مؤسسة كهرباء لبنان.

شكلت عملية مبادلة الفيول العراقي بمادتي الغاز والفيول أويل الصالحين للإستخدام في معامل الإنتاج اللبنانية، جزءاً لا يتجزأ من نص إتفاقية توريد النفط العراقي إلى لبنان. ولما كانت الإتفاقية سمحت من ضمن بنودها بإستبدال «الفيول العراقي الأسود» مع طرف ثالث بهدف تغيير المواصفات لإستخدامها من قبل الحكومة اللبنانية، وضعت آلية لتلزيم كل عملية إستبدال على حدة، عبر مناقصات cargo spot شهرية (ما بين 75 إلى 85 ألف طن) لصالح مؤسسة كهرباء لبنان. وقد وافق العراق على دفتر الشروط والشركات المشاركة.

جرى توريد اول شحنة من النفط العراقي إلى لبنان من ضمن الإتفاقية التي سرت مفاعيلها في أيلول 2021. وبسبب جائحة كورونا حينها، دعت المديرية العامة للنفط إلى اجتماع افتراضي لفض عروض المناقصة الأولى من ضمن عملية مبادلة الفيول العراقي الثقيل بمادتي الغاز والفيول أويل بنوعية A، B. ففازت شركة «بترول الإمارات الوطنية» بالمناقصة الأولى. وخلص الأمر إلى إرسال النفط العراقي الأسود مباشرة اليها عبر البواخر، على أن تقوم بتوريد ما يوازي قيمتها من الغاز والفيول أويل الصالحين لإستخدام معامل إنتاج كهرباء لبنان. وهذه أيضاً أصبحت الآلية التي أعتمدت في تطبيق الإتفاقية.

فماذا في مسار هذه الإتفاقية من وصول أول شحنة فيول عراقي إلى لبنان وحتى اليوم؟ التفاصيل في الحلقة المقبلة.

المصدر
نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى