سياسةمقالات خاصة

الحرب في البحر الأحمر .. خلفيات وحقائق!

كتب الصحافي ريمون زيتوني لموقع قلم سياسي،

أدى تصاعد هجمات القرصنة التي يشنها الحوثيون على السفن التي تمر عبر البحر الأحمر الى رد الولايات المتحدة والغرب بضربات صاروخية على أهداف حوثية، مما عزز من احتمال التصعيد الإقليمي تزامنا مع استمرار الحرب في غزة والتوتر في منطقة الشرق الأوسط، لكن ما يثير قلق الغرب أكثر هو ما يحصل في البحر الأحمر لما يمثله من مشاكل جيوسياسية خطيرة في نقاط الاختناق. هذه الأخيرة هي عبارة عن امتداد ضيق يربط بين جسمين كبيرين من الماء وتوفر فرصاً تجارية هائلة بحيث تقع بعض المدن الكبرى في العالم مثل اسطنبول وسنغافورة على مفترق طرق استراتيجي حيث تجتمع الجيولوجيا والجغرافيا بشكل مثالي لتوفير الثروات الكبيرة.
لكنها أيضاً المكان الذي أدى الى سقوط الأحلام الامبراطورية. فهوس روسيا المستمر منذ قرون بضم شبه جزيرة القرم واحتلال أجزاء من اوكرانيا عام ٢٠١٤ والغزو قبل عامين، سببه القلق بشأن انعدام الأمن بسبب عدم وجود خط ساحلي يمنح قواتها البحرية والسفن التجارية ممرا آمنا إلى الأسواق العالمية.
لطالما كانت روسيا قلقة للغاية بسبب ضيق مضيق البوسفور ونقطة التفتيش بين كوبنهاجن ومالمو والتي يمكن أن تغلق بحر البلطيق. لم يكن صدفة أن تحلم روسيا الإمبراطورية بغزو القسطنطينية.
هناك ايضا “معضلة ملقا”، مصطلح ابتكره جين تاو في عام ٢٠٠٣ وهو ممر يبلغ عرضه ١.٥ ميل بحري في أضيق نقطة له، وفي الجنوب بحر الصين ككل. معضلة ملقا شكلت قلقا لدى الصين من تعرض وارداتها وصادراتها الى الخطر، فكان أحد ردود الفعل هو عسكرة هذا الممر.
أضف الى ذلك مضيق باب المندب في الطرف الجنوبي للبحر الأحمر وهو بوابة قناة السويس.هذا المضيق مع البحر الأحمر ككل اشتهر بوجود قراصنة السفن منذ ٢٠٠٠ عام بحيث أولاه الرومان اهتماما خاصا لما كان يشكله من تهديد لسفنهم التجارية.
يشكل البحر الأحمر والسويس في أيامنا هذه أهمية بالغة للاقتصاد العالمي. ويمر عبرها كل عام نحو تريليون دولار من السلع والمنتجات والموارد الطبيعية أي ما يمثل نحو ١٢٪؜ من التجارة العالمية. وتكمن أهميتها في انها تشكل طريقا مختصرا بين آسيا وإفريقيا وأوروبا مما يوفر لها الوقت والمال.
في شهر تشرين الثاني ٢٠٢٣ هدد الحوثي هذا الشريان الحيوي وشن هجمات على السفن التجارية، مستهدفا حسب زعمه إسرائيل ومن يعتبرهم داعمين لها.
مع تنامي قدراتهم العسكرية في الآونة الأخيرة، شن الحوثيون هجمات صاروخية على المملكة العربية السعودية في عام ٢٠١٧ وعلى الإمارات العربية المتحدة في عام ٢٠٢٢. اتهمت الولايات المتحدة ايران بتزويد الحوثي بالصواريخ وغيرها من التقنيات المتقدمة إلا أن أحد كبار الضباط في الحرس الثوري الإيراني ادعى أن طهران تقدم فقط الدعم الاستشاري والروحي للحوثيين!
هذا واعتبر الخبراء ان تزايد الهجمات في البحر الأحمر لا يبدو من قبيل الصدفة تزامنا مع ادعاء المتحدث باسم الحوثيين محمد عبد السلام بأن الهجمات تقتصر على السفن الإسرائيلية أو تلك المرتبطة به بهدف تقديم الدعم المعنوي للفلسطينيين. ويرى محللون بأن توقيت الهجمات ينطوي على نوايا مبيتة كبرى تسلط الضوء على دور إيران في توسيع الأزمة في غزة والمنطقة. وكانت هناك تصعيدات مثيرة للقلق في أعقاب الهجمات الكبيرة التي شنتها إسرائيل على قادة حماس السياسيين في بيروت وقادة حزب الله في جنوب لبنان، وهجمات القوات الأمريكية على أهداف في العراق وسوريا ردا على الهجمات على القواعد العسكرية الأمريكية.
لم تتوقف هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، ورغم تحذير الولايات المتحدة و١٢ دولة أخرى بتحمل العواقب إذا استمروا في تهديد الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، أطلق الحوثيون سفينة سطحية بدون طيار محملة بالمتفجرات في الممرات الملاحية. واعتبرت واشنطن أن الهدف هو إلحاق الضرر وترهيب شركات الشحن.
في هذا السياق، حذرت بعض الشركات التي تجلب البضائع إلى أوروبا من آسيا من التأثير السلبي لتهديدات الحوثيين على البضائع، مشاكل العرض وتأخير المخزون. وأعلنت شركة الشحن الصينية كوسكو أنها لن ترسل سفناً عبر البحر الأحمر.
بالاضافة الى نقاط الاختناق التي ذكرنا، هناك ممر آخر هو قناة بنما الذي يعمل بنصف طاقته نتيجة للجفاف الحاصل بسبب ظاهرة النينيو، مما أثر على بحيرتي جاتون وألاجويلا الاصطناعيتين، المصممتين لتغذية نظام الهويس بالمياه العذبة. ومع عودة التضخم إلى السيطرة بعد عامين صعبين، فإن التأثيرات غير المباشرة على التجارة العالمية سوف تتزايد إذا لم تهطل الأمطار على أميركا الوسطى وفي حال استمرت الأزمة في البحر الأحمر.
ان التحديات التي يفرضها الحوثيون ليست بجديدة كما المشاكل التي تحصل في نقطة الاختناق عند مدخل البحر الأحمر، فالساحل الشرقي لأفريقيا يشكل قواعد عسكرية تديرها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإيطاليا واليابان وفرنسا وتركيا والإمارات العربية المتحدة والآن روسيا والصين.
من الصعب طبعا التنبؤ بما سيحدث بعد ذلك اذ ان الدول الأوروبية لم تجار بعد التحالف في ضرب الحوثيين وتشعر الولايات المتحدة بعدم الارتياح إزاء قيام فرنسا وإيطاليا بمبادرة إرسال سفن حربية بمعزل عن التحالف الذي تقوده واشنطن. أضف الى ذلك الهند والصين والدول العربية (باستثناء البحرين) فهي تكتفي حتى الان بمراقبة الوضع وتحاول، نظريا على الأقل، الحفاظ على عمليات الشحن في مسارها الآمن.
صحيح ان المصالح الاسرائيلية تُعتبر هدفا لهجمات الحوثيين، الا ان الاقتصاد المصري المترنح هو الذي يتعرض أكثر لخطر مفاعيل الهجمات الحوثية وهذا قد يجبر الرئيس السيسي على التدخل في غزة على الرغم من عدم وضوح الآلية لذلك. أما إيران فيرى الخبراء أن لها دورا كبيرا في اللعبة كونها تسعى إلى النفوذ والتنازلات في مقابل كبحها لجماح الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان كمكافأة باعتبارها آمرهم المطلق في المنطقة.
وبغض النظر عن ذلك، تبقى المتاجرة بمعاناة الفلسطينيين هي اللاعب الأكبر في الوقت الحالي. وفي حال عدم التوصل الى حل ما، يبقى البديل المنطقي الوحيد هو التصعيد.فهل يتخطى هذا التصعيد حدود اليمن؟

ريمون زيتوني

كاتب وصحفي، عضو نقابة المحررين الصحافيين في لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى