عربي ودوليمقالات

السودان.. حرب السلطة والمال!

كتب الصحافي ريمون زيتوني لموقع قلم سياسي

تشهد السودان حتى اليوم صراعا مميتا على السلطة أدى إلى مقتل أكثر من ١٠ آلاف شخص ونزوح حوالي ٦ مليون فر مئات الآلاف منهم إلى مناطق غير مستقرة في تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان. وفي ظل الظروف الانسانية الصعبة ناشدت منظمة الأمم المتحدة تقديم المزيد من الدعم خاصة مع تفشي وباء الكوليرا. في الوقت نفسه، لم تتوصل المساعي بعد إلى تحقيق نتائج بالتزامن مع انضمام الجماعة المتمردة التابعة للحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال- إلى القتال، منتهكة وقف إطلاق النار في جنوب غرب السودان. لا شك بأن الصراع لن ينحصر في الداخل السوداني بل انه يهدد بزعزعة استقرار السلام الهش في الدول المجاورة في حال عدم نجاح مساعي وقف الحرب.
في نيسان ٢٠٢٣ اندلعت المعارك في العاصمة السودانية الخرطوم بين قادة القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان ومجموعة عسكرية تعرف بقوات الدعم السريع يقودها محمد حمدان حميدتي دقلو مما أثار المخاوف من العودة إلى حرب أهلية واسعة النطاق. هذا الصراع على السلطة من أجل السيطرة على الدولة ومواردها ادى الى تدهور الظروف الإنسانية.
كان السودان في النصف الأول من القرن العشرين محمية مشتركة بين مصر والمملكة المتحدة عرفت بالسيادة الانكلو مصرية منحت على أثرها المملكة البريطانية سلطة سياسية وعسكرية على البلاد. وفي عام ١٩٥٦ وقّعت الدولتان معاهدة تقضي بالتخلي عن السيادة لجمهورية السودان المستقلة.
واجهت الجمهورية الجديدة على الفور تحديات كبيرة. فقد بلغت مساحتها مليون ميل مربع تقريبا، وكانت تقع مباشرة بين بعض الدول والمناطق الأكثر عنفا في أفريقيا. أما التحدي الأكبر والأكثر إثارة للقلق فهو الانقسام الداخلي بين المنطقة الشمالية الأكثر ثراء في البلاد (أغلبية عربية ومسلمة)، والمنطقة الجنوبية الأقل تطورا (مسيحيين أو وثنيين). أتى هذا الانقسام في قلب حربين أهليتين أدت الأخيرة منها الى انقسام البلاد إلى دولتين عام ٢٠١١. وكانت الحرب الأهلية السودانية الثانية ١٩٨٣ – ٢٠٠٥ حربا وحشية أدت في نهاية المطاف إلى مقتل مليوني شخص تقريبا.

وفي تموز ٢٠١١ انفصلت أراضي جنوب السودان وشكلت دولة جديدة تعرف اليوم بجمهورية جنوب السودان.
تميزت فترة ما بعد الاستعمار بديكتاتورية عمر البشير الذي استولى على السلطة في انقلاب عام ١٩٨٩. خلال رئاستة أشرف على الحرب الأهلية وانفصال جنوب السودان والحرب في دارفور عام ٢٠٠٣ التي أدينت لاحقا من قبل المحكمة الجنائية الدولية ووزارة الخارجية الأمريكية باعتبارها إبادة جماعية.
فرض نظام البشير القمعي تفسيرا مقيدا للشريعة، ووظف ميليشيات خاصة لخوض معاركه, وشرطة أخلاق لفرض مراسيمه واضطهاد المسيحية والردة السنية والشيعة وغيرها من الأنشطة الدينية للأقليات.
استمر البشير في السلطة حتى عام ٢٠١٩ وبحلول العقد الأخير من رئاسته واجه احتجاجات شعبية متزايدة تطالب بالديمقراطية، والحصول على الخدمات الأساسية، ونظام جديد للحكم. بلغت الثورة ذروتها في انقلاب نيسان ٢٠١٩ الذي نفذته القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو والتي انبثقت من ميليشيا الجنجويد في عهد البشير، وهي جماعة مسلحة ذات أغلبية عربية مولها البشير لقمع المتمردين في جنوب السودان، وعلى الأخص للقتال في حرب دارفور.
تم تنظيم الجنجويد رسميا تحت راية قوات الدعم السريع في عام ٢٠١٣ بدعم من البشير، وقد تم استخدامها كقوة حرس حدود، ومصدر لمرتزقة التحالف السعودي في الحرب اليمنية، وقوة أمنية مستأجرة لقمع الانتفاضات الشعبية. وأصبح حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، أحد أغنى الرجال في السودان بعد سيطرته على مناجم الذهب برضى البشير الذي استعان به لحمايته من الانقلابات ومحاولات اغتياله. وعلى الرغم من ذلك، شاركت قوات الدعم السريع عام ٢٠١٩ بالاطاحة بالبشير جنبا إلى جنب مع القوات المسلحة السودانية وشكلت على أثرها حكومة انتقالية ووضع للبلاد دستور جديد. قاد البرهان مجلس السيادة الانتقالي ثم عيّن حميدتي نائبا له. وضم المجلس أيضا قادة عسكريين آخرين وعددا من المدنيين.
عُين عبد الله حمدوك رئيسا للوزراء فأمضى فترة حكمه القصيرة يحاول التخفيف من وطأة الأزمات الاقتصادية الشديدة في السودان والعمل على تحقيق الاستقرار الى ان انقلبت ضده قوات الدعم السريع فعزلته من منصبه في تشرين الاول ٢٠٢١، مما دفع بالمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الى ايقاف الديون التي كان السودان بأمسّ الحاجة إليها، واشتدت المظاهرات الحاشدة التي تطالب بالعودة إلى الحكم المدني في الخرطوم.
أعيد حمدوك لفترة وجيزة إلى منصب رئاسة الوزراء في تشرين الاول ٢٠٢١ بعد موافقته على التنازل عن بعض صلاحيات الحكم للبرهان وحميدتي وبقية القطاع الأمني، الا انه استقال في كانون الثاني ٢٠٢٢ عندما اعترض المتظاهرون السودانيون على شروط إعادته إلى منصبه وانتقدوا عجزه عن السيطرة على التجاوزات التي قامت بها قوات الأمن.
منذ استقالة حمدوك، لم يكن للسودان قيادة مدنية فعالة حيث عمل البرهان كرئيس فعلي للدولة. وبحلول عام ٢٠٢٢، كان لا يزال وحميدتي على رأس الحكومة.
في كانون الاول ٢٠٢٢ تم الاتفاق على الانتقال الى القيادة المدنية والتحضير للانتخابات الوطنية خلال عامين كحد اقصى. رفض العديد من المواطنين الخطة الزمنية كما رفضوا خطة السماح لقطاع الأمن بالاحتفاظ ببعض صلاحيات الدولة بعد الفترة الانتقالية. اندلعت الاضطرابات من جديد مما أدى إلى المزيد من حملات القمع العنيفة ضد المتظاهرين. ومع بدء الحكومة الانتقالية التي لا يزال يقودها البرهان في التفاوض على تنفيذ الخطة، ظهرت معضلة شائكة وهي دور حميدتي وقوات الدعم السريع في المرحلة الانتقالية، فاتُفق على دمج هاتين القوتين تحت قيادة مدنية. لم يحدد موعد نهائي لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية بحيث أصر البرهان على عملية تستغرق عامين، بينما اقترح حميدتي جدولا زمنيا مدته عشر سنوات. غاب الزعيمان عن الموعد النهائي في أوائل عام ٢٠٢٣ لتحديد شروط تنفيذ الاتفاق، فاستمر التوتر وتعزز الخلاف بينهما حول تبعية كل منهما لحكومة منتخبة.
استمر الصراع على السلطة بين البرهان وحميدتي في عرقلة جهود المرحلة الانتقالية في البلاد. وبحلول شهر نيسان ٢٠٢٣ انتشر جنود قوات الدعم السريع في جميع أنحاء السودان وهزت سلسلة من الانفجارات الخرطوم، مصحوبة بإطلاق نار كثيف.
نتيجة للضغوط الدولية وافقت القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على استئناف المفاوضات بقيادة الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في أواخر شهر تشرين الأول من العام الماضي، ولكن، مع استمرار أعمال العنف أثناء المحادثات انهارت المفاوضات بعد أن انسحبت منها القوات المسلحة السودانية مما دفع بإدارة جو بايدن الى حظر التأشيرات على قيادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، كما فرضت عقوبات على شركات التعدين التابعة لقوات الدعم السريع والشركات التي تدعم عمليات القوات المسلحة السودانية.
استمر القتال في الخرطوم وتزايدت حوادث العنف في جميع أنحاء البلاد بما في ذلك في دارفور. اغتيل خميس أبكر، حاكم ولاية غرب دارفور، في ١٥ حزيران ٢٠٢٣، واتهم أباكر قوات الدعم السريع بهجمات الإبادة الجماعية ضد الأقليات ودعا إلى التدخل الدولي لحماية المدنيين في دارفور حيث قُتل على الأرجح على يد مسلحي هذه القوات. استمرت أعمال العنف، وفي أوائل تشرين الثاني قتلت قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها أكثر من ٨٠٠ شخص في بلدة أردماتا الواقعة في غرب دارفور. واعتبر المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي أن أعمال العنف في دارفور هي حرب إبادة جماعية أسفرت عن مقتل ما يقدر بنحو ٣٠٠ ألف شخص بين عامي ٢٠٠٣و ٢٠٠٥. امتد الصراع أيضًا إلى الشرق. وفي أيلول ٢٠٢٣ اشتبك الجيش السوداني وميليشيا قبلية في بورتسودان حيث أنشأت الأمم المتحدة مركزها اللوجستي. هذا وتواصل الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية الدعوة إلى وقف الانتهاكات ضد المدنيين والسماح بوصول المساعدات الإنسانية.
تفاقمت الظروف في البلاد وقد لقي أكثر من ستمائة شخص حتفهم في الشهر الأول من القتال، دمرت المستشفيات والبنية التحتية الحيوية، وأدى العنف إلى نزوح أكثر من أربعة ملايين شخص.
في آب ٢٠٢٣، أعلنت الأمم المتحدة أن الوضع في السودان يتدهور بشكل دراماتيكي خاصة مع انهيار النظام الصحي وأن النزوح يشكل مصدر قلق نظرا لكون السودان يقع على حدود بلدان أخرى مضطربة مثل جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وإريتريا وإثيوبيا وليبيا وجنوب السودان. وعلى الرغم من فشل المحادثات الحالية بين البرهان وحميدتي للتوصل الى وقف لاطلاق النار، إلا أن وكالة الأنباء السعودية ذكرت أن الجانبين أكدا من جديد حرصهما على وصول المساعدات الإنسانية.
ويبقى السؤال: من يعرقل مساعي السلام في السودان؟ وماذا لو خرجت الحرب عن السيطرة وامتدت الى خارج الحدود؟

ريمون زيتوني

كاتب وصحفي، عضو نقابة المحررين الصحافيين في لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى