السوريون المُرَحّلون من لبنان.. يعودون إليه تهريباً بأي ثمن
فيما لا يزال لبنان الرسميّ حتّى اليوم متمسكًا بموقفه أمام المجتمع العربيّ والدوليّ، عازمًا على استكمال عمليات الترحيل الجماعيّة، سيما للاجئين غير النظاميين والداخلين خلسةً إلى الأراضي اللبنانية (بموجب القرار الصادر عام 2019)، مستأنفًا منهجه التقليديّ المتمثل بسياسة التضليل والالتباس في تعاطيه مع هذا الملف كما سائر الأزمات. السّياسة ذاتها التّي أوصلت ملف اللاجئين لهذه النقطة المفصليّة، وجعلته عرضةً للتجاذبات الرسميّة والمناكدات الشعبيّة والتبرم الدوليّ. ولما كان موقف لبنان وإجراءاته المخالفة للاتفاقيات والمواثيق الدوليّة، ينطوي ضمنيًا على مكتسبات جمّة، تمكنت السّلطات اللبنانيّة من الاستفادة منها، وعلى رأسها تحييد نفسها عن المساءلة الشعبية، ومن ثمّ ابتزاز المزيد من الدعم الدوليّ والمساعدات، وأخيرًا الانصهار الكليّ في طموح الأسد (الصامت عما يُرتكب بحقّ “مواطنيه”) بتحويل ملف اللجوء وتحديدًا في لبنان مادة للتفاوض والابتزاز بيدّه ومفتاحًا لإعادة العلاقات السّابقة وخصوصاً مع عودته التدريجية لما يسمى “الحضن العربيّ”..
الهروب مجددًا
وعليه، تنبثق تباعًا العديد من السّيناريوهات مع استمرار حملات الترحيل من لبنان إلى الحدود السّورية، بقيادة مخابرات الجيش، والتّي بلّغت أوجها مطلع شهر نيسان المنصرم. وهذه السّيناريوهات التّي أفرزت نكبة حقوقيّة مستجدّة مُضافة لسلسلة نكبات الشعب اللبناني والسّوري على حدٍّ سواء، لا يزال من العصيّ عمليًا الإحاطة بكافة جوانبها أو تدارك وطأتها. فمن جهة لا أرقام رسميّة ودقيقة لأعداد المُرحلين إلى الداخل السّوري حصرًا في الحملة الأخيرة، أو أنباء ومعطيات كافية عن مصيرهم هناك. ومن جهةٍ أخرى، فإن هذه الحملات قد أرست واقعًا جديدًا لم تكن السّلطات تتوقعه، وهي التّي ادعت أن حملاتها الأمنية هذه هدفت أساسًا لإرساء الاستقرار الأمنيّ وتنظيم اللجوء السّوري على أراضيها، متسلحةً بذريعة إثارة اللاجئين للقلاقل الأمنيّة.
فبعيد تسليمهم إلى الجانب السّوري عَمد شطرٌ لا يُستهان به من اللاجئين المرحلين لإيجاد السُّبل للعودة إلى لبنان مجدّدًا، وخصوصاً الأسر التّي اُعتقل فيها الرجال من المنشقين عن قوات الأسد أو المعارضين. وقد تواصلت “المدن” مع عدد من هذه الأسر العائدة أو في طور العودة. وفيما تتفاوت أسباب عودة هؤلاء أو نيتهم بالعودة عبر المعابر غير الشرعيّة طبعًا، بين اشتداد الخناق السّياسيّ والاجتماعي والاقتصادي عليهم في الداخل السوري، وبين الفاقدين للمعيل المحتجز لدى قوات الأسد ولم يُسمع عنه خبرٌ للآن، فضلاً عن الذين قصدوا مناطقهم ولم يجدوا بيوتهم أو وجدوها من دون أن تكون صالحة للعيش، وصولاً للذين اضطروا بعد أسابيع من الترحيل للعودة تحت وطأة التخوف من الاعتقال المفاجئ، على منوال ما حصل مع عدد من الأسر المرحلة، والتّي داهمتها قوات النظام بعد مدّة وجيزة من استقرارها في الداخل السّوري بغية التحقيق والاعتقال.
الأمر الذي أكدّه المدير التنفيذي لمركز وصول لحقوق الانسان لافتًا إلى أنه “لا يوجد أي إجراء قانوني، وليس لدى اللاجئين أي خيار للمثول أمام القضاء، ولا يوجد لديهم فرصة لإجراء اتصال مع عائلاتهم أو طلب محام دفاع. أما الذين لا يتم تسليمهم للسلطات السورية فيعودون من خلال مهربين تعلم السلطات مسبقًا بوجودهم على الحدود”.
حركة تهريب
وفي الأسابيع القليلة الماضية دخل مجددًا عشرات من اللاجئين عبر المعابر البريّة غير النظاميّة الممتدة على مقلبي الحدود اللبنانيّة – السّورية من منطقة وادي خالد المتاخمة لمدينة حمص، وصولاً لمنطقة القصير المتداخلة بين البقاع الشمالي اللبناني والداخل السوري، وغيرها من المعابر الترابية التّي تصل بين البلدين. ونشطت شبكات جديدة للمهربين من الجنسيتين وبين البلدين. ولما كانت تكلفة التهريب سابقًا محددة ومحدودة التفاوت، فإن المهربين للاجئين المرحلين استفادوا من هذه الأوضاع الاستثنائية، لتتضاعف تكلفة التهريب وخطورته، خصوصاً أنه يشتمل على رحلات من المناطق التّي استقر فيها المرحلون مؤقتًا وصولاً للحدود. وفيما كانت تتراوح سابقًا كلفة التهريب من سوريا إلى لبنان بين 100 و400 دولار أميركي للشخص الواحد، باتت اليوم وللمُرحلين تحديدًا تفوق 300 دولار على أقلّ تقدير وتتجاوز في بعض الحالات مبلغ 800 دولار أميركي”.
وفي هذا السّياق تروي ز. ف. رحلة العودة من سوريا إلى لبنان، بعدما تمّ ترحيلها وأسرتها مطلع أيار الجاري بسبب انتهاء صلاحية أوراق إقامتهم في لبنان، شارحةً كونها اضطرت وأطفالها للعودة إلى لبنان الذي لجأت وزوجها إليه عام 2015 واستقروا في أحد المخيمات في البقاع الشمالي ثمّ إلى جونيه. وقد انتهت صلاحية أوراق الإقامة منذ نحو ثلاث سنوات، ولم يتمكنوا من تجديدها نظرًا للإجراءات المُعقدة. قائلةً: “بعدما تمّ توقيف زوجي على الحدود والتحقيق معه لحوالى الأسبوع، تم الافراج عنه، لكننا خفنا أن يتم اعتقاله مجددًا خصوصاً أن وضعه السّياسيّ صعب. لم نتمكن من الاستقرار في بلدتنا التّي ننحدر منها بسبب هيمنة النظام عليها. وهذا كان الدافع الذي جعلنا نعتقد أن هناك من قد يقوم بالتبليغ عن زوجي مجددًا”. مضيفةً: “أطفالي لا يتجاوز أكبرهم العشر سنوات، وكامل أسرتي وأسرة زوجي في لبنان. وإن تمّ توقيف زوجي فلا معيل أو حماية لي ولأطفالي. ولا احتياط مالي معنا يكفينا للصمود أكثر من شهرين في سوريا من دون عمل. ففضلنا أن نستثمر المال الذي بحوزتنا للرجوع بالرغم من خطره. وقد استغرقت رحلة التهريب من دمشق إلى بيروت مدّة اليوم ونصف اليوم”.
مسار التهريب
تشرح ز.ف. رحلة الهروب إلى لبنان: “انطلقنا من منطقتنا باتجاه دمشق، ومن هناك ركبنا آلية نقل عام صغير الحجم، ولدى وصولنا إلى الحدود ترجلنا من الآلية وتابعنا السير ما يناهز الثلاث ساعات. وصولاً إلى البقاع الشمالي في الهرمل، ومن هناك انطلقنا باتجاه بيروت. أما عن تكلفة التهريب فقد طالبنا المُهرب بـ500 دولار أميركي على الشخص الواحد، لكن زوجي فاوضه على مبلغ 300 دولار أميركي للطفلين فوافق أخيرًا على أخذ مبلغ 1400 دولار أميركي عن كامل أسرتنا مقابل تهريبنا”. لافتةً لكون المبلغ قد يتضاعف في حال كان رحلة التهريب لا تشتمل على السير على الأقدام على امتداد الحدود. ذاكرةً كونهم قد تواروا عن الأنظار منذ وصولهم خشية الاعتقال والترحيل مجددًا، خصوصاً أن المنطقة التّي يقطنون فيها اليوم تفرض بلديتها حظر تجول ليليّ وتضيق على اللاجئين منذ سنوات.
واللافت كان عند تواصل مع عدد من الأسر العائدة إلى لبنان، تواتر النيّة عند غالبيتها بالهجرة من لبنان إلى أوروبا، أكان في قوارب الهجرة غير الشرعية أو عبر البرّ باتجاه تركيا.. كون الهجرة باتت أكثر أمانًا من خطر الاعتقال في لبنان والترحيل مجددًا. وهذا وسط غياب أي أفق أو منهجية واضحة للحملات الأمنيّة التّي تقودها السّلطات اللبنانيّة مثيرةً الذعر في صفوف اللاجئين اليوم ومكرسةً منهجًا من الخبث والكراهية و”الشيطنة” المتعمدة للضحايا، على حساب ترميم العلاقات مع النظام السّوري وتحييد نفسها عن المساءلة.. ناهيك بتقاعس الجهات الدوليّة وعلى رأسها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين عن تأمين ضمانات لهؤلاء. وتحامل الأسد ومماطلته المفتعلة وتواطؤ المجتمع العربيّ معه في الحؤول دون إنجاز ضمانات إنسانية وأمنيّة مبينة على حلّ سياسي عملانيّ وعقلاني، تضمن للاجئين العودة الطوعيّة الحقيقية إلى بلادهم كمواطنين بحقوق وكرامات وحريات محفوظة.