مقالات

“تصدير السلطوية” بين أميركا والصين

#مارك زوكربرغ مؤسس فايسبوك تعلّم اللغة #الصينية. حسب كتاب الصحافي الأسترالي #بيل بيرتلس “الحقيقة حول الصين”، وهو مراسل ABC السابق في الصين، فإن زوكربرغ تمكّن من إظهار “إلمام أساسي” في هذه اللغة خلال لقاء مع طلاب جامعة بكين، حتى أنه لاحقا طلب من الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال عشاء في البيت الأبيض أن يقترح له إسما صينيا لابنته التي كانت لا تزال جنينا في رحم زوجته، (لكن حسب بيل بيرتلس فإن فريق العلاقات العامة التابع لزوكربرغ ادعى لاحقا أن هذا الاقتراح لم يحصل).

في الحقيقة يبدو أن انفتاح مؤسس فايسبوك على الصين لم ينفع. ففايسبوك لا تزال ممنوعة أو محجوبة على البر الصيني مع مواقع أخرى اعتباراً من العام 2010، من ضمن مجموعة من وسائل التواصل الاجتماعي بينها تويتر أيضا وبواسطة ما يُسمّى كوسيلة حجب “great firewall”. مع أن بعض الشركات الكبرى الصينية وبموافقة رسمية من سلطات بكين تستخدم تويتر.

البروباغندا الأميركية توظِّف شعاراً فعالاً حاليا في المواجهة السياسية مع الصين هو أن الصين باتت تصدّر السلطوية إلى العالم وتحديداً “العالم النامي”. (China Exports Authoritarianism). وتروي الخبيرة الأميركية المعتبَرة اليوم أحد الأبرز بين الخبراء في الشؤون الصينية إليزابيت إيكونومي في ندوة حول الصين أن رئيس كازاخستان زار شركة صينية تحمل إسم “هِكْ ڤيزون” (Hikvision) تنتج وتقدّم تكنولوجيا مراقبة. كانت الزيارة إلى مقر هذه الشركة في الصين. وشاهد الرئيس الكازاخي كيف أن لمسةً على وجه شخص ترتسم على شاشة الكومبوتر يستطيع المستخدم بواسطتها أن يصل إلى تاريخ الشخص المدرسي، والمهني، ووضعيته المالية وكيف يمضي هذا الشخص أوقات فراغه وهل يشارك في تظاهرات وأي أفلام سينمائية يشاهد، ومن هم أصدقاؤه.

ماذا كانت ردة فعل الرئيس الكازاخي؟

لقد قال بعد هذه المشاهدة وبكل إيجاز:

“إننا نحتاج هذه التكنولوجيا”!

وتقصد الباحثة إيكونومي طبعاً أنه يحتاجها للضبط الأمني السلطوي.(سيكون لي لاحقا مقال مراجعة لكتاب الباحثة إيكونومي الأخير “العالم منظورًا إليه من الصين” (The world According To China) الذي أعكف على قراءته حاليا).

على أن الحرب صارت الآن متبادلة بين #الولايات المتحدة وبعض الغرب وبين الصين سواء في حظر المواقع أو بعض المعدات الدقيقة المنتَجة في الغرب عن عدد من الشركات الصينية. وآخر حظر اعتمدته قبل مدة قصيرة الحكومة الأسترالية بعد تحقيقات مطوّلة كان ضد تطبيق تيك توك على برامجها وانضمّت بذلك إلى الولايات المتحدة وكندا ونيوزيلاندا وبعض دول الاتحاد الأوروبي.

المسألة أصبحت مسألة أمن قومي على الجهتين الصينية ومعظم الغربية.

لنقرأ كيف وصف وزير الخارجية الأميركي الأسبق في عهد ترامب، مايك بومبيو عندما كان مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية( CIA ) في العهد نفسه، في الفصل العاشر من كتاب مذكراته، كيف وصف نوع التجهيز الأميركي للمواجهة التكنولوجية التجارية مع الصين. وهذا أحد المقتطفات الحرفية:

“….. شكرتُ مجموعة (المدير السابق للسي أي إي) جون برينان على خدماتها، واستقدمتُ قادة الأعمال الأكثر ذكاء في أميركا من الشركات الصغيرة والشركات التجارية العملاقة على السواء. وكانت لكل منهم خبرةٌ في تقنية أو أداة مالية أو مورد مهمٍّ في عملنا. إذا كنا نريد مواجهة الصين، كان عليّ أن أعرف كيف هي ساحة المعركة. وهؤلاء العمالقة في القطاع الخاص ساعدوني في هذا المجال. لم ندفع لهم شيئاً، وخدموا أميركا بالطرق الأكثر أهمية. لن يُكشَف عن أسمائهم هنا، لكنهم جميعاً وطنيون. المواد الاستخبارية التي يقرأها قادتنا اليوم هي أفضل ناطقة بالحقيقة”.

العنصر الأهم في السطور السابقة هو اعتراف مدير سابق لِ “السي أي إي” أن القطاع الخاص وتحديدا الشركات العملاقة (والصغيرة) يشارك في أنشطة الأمن القومي وفي التخطيط لها. لكن بومبيو بسبب حساسية الموضوع كتب أنه لن يكشف عن أسماء هؤلاء “الوطنيين” كما يصفهم.
هل تُصدَّر السلطوية كمنتَج سياسي ثقافي؟
طبعاً تُصدَّر أو تُدعم كمنتَج محلي مثلما دعمت الولايات المتحدة الأميركية الأنظمة العسكرية في أميركا اللاتينية وشرق آسيا والشرق الأوسط في الخمسينات من القرن المنصرم لمواجهة الاتحاد السوفياتي. هل يجوز لنا القول كان دعما بلا تصدير! الفارق شكلي مع أن المنتَج الأميركي الأبرز في الثقافة السياسية في تلك المرحلة من الخمسينات والستينات كان مقولة دعم الاستقرار ولو على حساب الديموقراطية. لكن أين هو هذا الاستقرار في مذبحة سوهارتو في إندونيسيا عام 1965 أو في انقلاب تشيلي الدموي في السبعينات وكلا الحدثين كانا مدعومَيْن من وكالة الاستخبارات المركزية.
لا شك أن السياسة الخارجية الأميركية أصبحت أكثر خبرة بعد تجارب الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن المنصرم والحملات الشرسة المضادة التي جعلت الحس النقدي لدى هوليوود ينتج فيلم “الأميركي البشع” من بطولة مارلون براندو عام 1963. والفيلم يروي دور سفير أميركي كان صحافيا في مواجهة تطورات سياسية وعنفية في أحد بلدان جنوب شرق آسيا. لكن في استعادة مشاهدة هذا الفيلم اليوم يبدو الاسم المستعار (ساراكان) الذي اختير للبلد الذي تدور أحداثه فيه وكأنه أقرب إلى تايلاند مع أن فيه من “الفتنمة” من حيث التدخل العسكري الأميركي.
الفيلم يعالج الثنائية القديمة الشهيرة: “الديموقراطية ضد الشيوعية” وتتطور الرواية إلى مسألة مفهوم الوطنية بين الديموقراطيين والشيوعيين ولكن المفارقة أن الفيلم منظورا إليه اليوم كان يحافظ على حلف أعداء أميركا ذاته وهو الصين وروسيا مع زوال التسمية الشيوعية. فالمؤامرة المضادة في الفيلم يخطط لها الصينيون والروس! والمقارنة بين الأمس واليوم تشير إلى مفارقة أخرى هي أن مدخل النفوذ الأميركي إلى ساراكان كان التنمية الاقتصادية عبر بناء طريق سريع أسموه “طريق الحرية” في المناطق الريفية يصل إلى حدود الصين وهو ما أزعج الصينيين وحلفاءهم الروس والمعارضة المحلية.
اليوم تدخل الصين، وعبر بناء الأوتوسترادات و القطارات والمرافئ وغيرها من البنى التحتية، إلى الدولة المعنية تحت شعار التنمية الاقتصادية.(ناهيك عن إقرانها ب “رسالة” ثقافية عبر فروع “مؤسسة كونفوشيوس”).
ومع أن الفيلم أثار بعد عرضه في النصف الأول من الستينات، انتقاداتٍ داخل أميركا وفي صحف كبرى فاتُّهم ب”التبسيط” السياسي، غير أن مراجعته اليوم تجعل الحوار فيه شديد الجاذبية وحتى الدقة من وجهة نظري.

عندما تدخل القطيعة بين بلدين في الاستراتيجيا القومية لكل منهما لا تعود تنفع معها مبادرات النوايا الحسنة فكيف بين إمبراطوريتين متقدمتين اقتصاديا وتكنولوجيا في القرن الحادي والعشرين كالولايات المتحدة والصين؟ مع العلم أن التاريخ الحديث قد يكون بدأ، على الأقل جزئيا، ليس من سقوط الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينات القرن المنصرم، وهذه نتيجة لا سبب، بل من التقارب الصيني الأميركي في بداية سبعينات ذلك القرن أي بحوالي عشرين عاما سبق الحدثُ الثاني الحدثَ الأول. لقد دخلت “صينميركا” (Chimerica) حسب التسمية التي أُطلقت على البلدين واستخدمها قبل أيام مقال مشترك في “فورين أفيرز” لباحثَيْن أميركي وصيني مرموقَيْن SCOTT KENNEDY و WANG JISI دعيا إلى تعزيز الروابط بين نخب البلدين في زمن تراجعها بين الحكومتين. ويشير الكاتبان اللذان قام كلٌ منهما بجولة لأشهر في بلد الآخر، الصيني في أميركا والأميركي في الصين، إلى أن نسبة التواصل بين المجتمع الأميركي والمجتمع الصيني تراجعت في السنوات الأخيرة 2019- 2022 لاسيما بعد جائحة كورونا إلى 95 بالمائة حتى أن سعر بطاقة سفر بينهما على الدرجة الاقتصادية ارتفع إلى سبعة آلاف دولار فيما لا تزال قلة قليلة من خطوط الطيران مفتوحة.

يبدو للقارئ من هذا التوصيف أن العزلة صينية أكثر منها أميركية لأن العالَم أميركيٌ أكثر منه صينياً، بل إن العالمَ أميركيٌ أكثر منه أميركيًا! وليس في هذا التعبير أي خطأ تكراري لأن النظام الدولي الذي تقوده أميركا هو بنية ثقافية وعلمية ونمطية تفرض نفسها على العالم أجمع بما فيه الصين، وليس فقط اقتصادية وسياسية وعسكرية. هذا أيضا رغم أن مشاريع “مبادرة الحزام والطريق” باتت موجودة وبأشكال مختلفة في أكثر من 140 بلداً، وبالتالي يعكس مقال كينيدي وجيسي شهادة على حاجة الصين للانفتاح أكثر، رغم ضوابط نظامها الأمني السلطوي ورغم النجاحات الامتدادية في العالم التي حقّقها انتشار “مبادرة الحزام والطريق”.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى