مقالات

الخط الثالث.. المجتمع البديل

كتب الكاتب والناشط السياسي اللبناني عامر زياد جلول:

هذا المقال تكملة لسلسلة مقالات كنت بدأتها لتقديم شرح عن الخط الثالث، كبذور لمشروع فكري قادر على أن ينبت وأن ينمو في مجتمعات تعاني من شحن طائفي يسعى فيه كل طرف إلى إلغاء الآخر وفرض رؤيته.

إن الخط الثالث ثقافة حياة وطريقة تفكير في كل مجالات الحياة، ولكن من خارج الصندوق، أي بعيدًا عن العصبيات والدوغماتية الفكرية والمعرفية، ويعزز مفهوم “دمقرطة المعرفة” وتنويع مصادرها كي نحارب الموروثات الاجتماعية والثقافية التي أصبحت جزءًا أساسيا من حياتنا.يعيش لبنان أسوأ ظروف، ولا تقتصر على المشهد السياسي وحده، بل تشمل أيضا مشهد الحياة كلها؛ فالأمور تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، والتشنجات والخطابات الشعبوية والتقاذف الإعلامي هي سيدة الموقف.

وبعد رحلة التفكّر الطويلة أدركت أن الأمور تحتاج إلى حل بنيوي، فأزمتنا ليست أزمة اقتصادية، وليست سياسية، إنما هي أزمة بنيوية تحتاج إلى تفكر وتأمل للخروج من الأزمة التي طالت المجتمع والدولة ومؤسساتها.

من رحم تلك المعناة والأزمات خرجتُ بنظرية الخط الثالث، لا شك أنها تحتاج إلى تنضيج وتطوير في المسائل المتعلقة بالقضايا الاجتماعية، مثل قضية المرأة و”الجندرية” والعدالة الاجتماعية، كما أنها تحتاج إلى توسيع مفهوم شكل الدولة المدنية التي طرحتها والتي لا تلغي الأديان ولا خصوصية الطوائف؛ فهذا الخط يهدف إلى إلغاء الطائفية كسلوك ويحافظ على الطوائف ككيان.

فالكثير سألني عن الذي يعنيه الخط الثالث؟ وإلى ماذا يرمز؟ يسألون ويتساءلون وهم في حيرة من أمرهم لأن المصطلح لا يُظهر أي دلالة سياسية ضمن علم المصطلحات المعروفة في العلوم السياسية والإدارية.

في الحقيقة، إن الخط الثالث -كتفسيرٍ سياسي واجتماعي وحتى أيديولوجي- هو خط يتوسط الخط الأول؛ أي أحزاب السلطة التقليدية التي أسهمت في تدمير البلد، والخط الثاني الذي يمثل المجتمع المدني المتفلت والمعادي لمنظومة القيم والأخلاق، ويرفع شعارات لا تعكس واقعنا ولا بيئتنا بشقيها السياسي والاجتماعي.

فالخط الثالث غير أيديولوجي بالمعنى الحقيقي، هو يميني بالمعنى المحافظ على القيم والثوابت وعلى التراث، وهو يساري بمعنى العدالة الاجتماعية والتقدم والتطور، ولكنه وسطي في طروحاته وخطاباته، وحل النزاع. من هنا، كان لا بد من طرح الخط الثالث الذي يكرس مفهوم “المجتمع البديل” الذي شعاره ثلاثي الأبعاد: “الوسطية، والتفاعلية، والهوية”.

الوسطية


من أكثر ما نعانيه في مجتمعاتنا المنقسمة بشكل حاد ورهيب الخطابات الراديكالية والشعبوية التي هدفها إبقاء الشارع متشنجا، وتخويف الناس من الفريق الآخر كي يحافظ كلّ على جمهوره ضمن سيطرة اللاوعي الجمعي، مستخدمًا تقنية سيكولوجيا الجماهير كي يروّض الجمهور حسب الظروف والمتغيرات.

ولكن هدف الخط الثالث هو وسطية الخيار، والخطاب، والمسار، في التعاطي مع كافة الملفات الساخنة. كلنا ندرك أن لبنان يركن ويسكن على بركان طائفي قابل للانفجار في أي لحظة نتيجة أي خطاب متهور يهدف إلى إشعال الساحة للابتزاز السياسي وتحقيق المصالح.

من هنا كان لا بد أن يكون هناك خط ثالث يتوسط تلك الجبهات المشتعلة بين السلطة والمعارضة، إذ لا يمكن أن تستمر أيديولوجية الإلغاء في العملية السياسية؛ فالوسطية في مقاربة الملفات، مثل السلاح، والفساد، والتغيير، هي السبيل الوحيد والإيجابي للخروج من الحروب العبثية التي استنزفت كل طاقاتنا.

التفاعلية


لا يمكن أن نكرس ثقافة الإلغاء التي أثبتت فشلها في كل التجارب الإنسانية عمومًا واللبنانية خصوصًا؛ فهي مكلفة ولا تأتي أُكُلها على الإطلاق. لذلك، فإن الخط الثالث -أي “المجتمع المدني المحافظ”- هو خط تفاعلي غير تصادمي، يسعى إلى أن يتفاعل مع الجميع، ويهدف في نهاية المطاف إلى بناء الإنسان ماديًا وروحيًا.

إن التفاعل الحضاري أنتج حضارات إنسانية أثمرت الصدمات الإيجابية. فعلى سبيل المثال، إن الحضارة الهيلينية نتاج التفاعل الحضاري بين الفينيقيين واليونان.

وكتفسيرٍ سريع، يعني التفاعل أخذ ما نريد وما نحتاجه، ورفض ما لا نحتاجه؛ هكذا سوف يكون التفاعل مع الأحزاب التقليدية والمجتمع المدني. لا يمكن أن نتصادم إلا في القضايا المصيرية والقيمية التي قد تؤدي إلى خطر داهم.

الهوية


منذ نشأة لبنان -أي لبنان الكبير- سنة 1920، قامت الهوية اللبنانية -للأسف- على المصالح الاقتصادية والخدماتية الصرفة، ولم تقم على معايير بنيوية قادرة على المواجهة والتصدي لأي محاولة لإلغاء ذلك الكيان المركب والمعقد؛ فالهوية الخماسية قد ضُربت بشكل مركز، أي المرفأ والقطاع المصرفي، وهذا ما قاله ميشال شيحا (أحد كتّاب الدستور اللبناني)، ثم القطاعات الصحية، والتربوية، والسياحية.

كل تلك السمات اندثرت تقريبًا ولم يبقَ منها إلا القليل. من هنا، كان لا بد لنا أن نطرح مسألة الهوية مجددا لمواجهة المشاريع الخارجية الشرقية والغربية. إن الحضارات لا تموت، إنما تقتل نفسها بنفسها، وذلك عندما تتعرى من هويتها. إن هويتنا التاريخية والثقافية واللغوية تتعرض إلى هجوم حاد؛ من أجل ذلك فإن الهوية المطروحة هي رباعية الشكل: “القيم، والثوابت، والمصلحة، والقانون”. فرغم الاختلافات والانقسامات، فإننا قادرون على أن نلتقي على القيم والثوابت المشتركة وعلى مصلحة العيش، لا التعايش. وأخيرًا القانون الذي يكرّس تلك المفاهيم والمصطلحات.

قد يتساءل البعض ويقول إن كل تلك الأطروحات نظريات غير قابلة للتنفيذ، وتبقى في حدود النظريات؟ ولكن صاحب القول يغيب عن ذهنه أن مرحلة التنظير تسبق مرحلة التنفيذ ثم التغيير. اليوم لا بد من التبشير بهذا الخط الذي يتماشى مع كل أطياف المجتمع ومع كل اختلافاته، ووظيفته الحفاظ على خصوصية كل فريق، مثل طقوسه أو شعائره الدينية، وعلى المحاكم الدينية والثقافات، ولكنه يكرّس فضاء مشتركا وواسعا يهدف إلى التركيز على المشتركات التي هي أسس البنيوية للمجتمع السياسي الجديد، بما يضمن المساواة في الحقوق والواجبات لكل الأفراد والجماعات.

طبعًا هي كمرحلة أولى تبشر بهذا الخط أو التيار حتى يصبح ثقافة منتشرة بين الناس ترتكز على التفاعلية، والوسطية، والهوية المتجددة، وحل النزاعات بين الفرقاء بطرق سوية وغير شعبوية، وتقوم على البراغماتية في التعاطي مع الثبات على القيم الثابتة غير المتحركة.

في مقالات لاحقة سنتطرق إلى كيفية معالجة الأمور السياسية والاقتصادية وطرح الحلول العملية التي هي ضمن رؤية الخط الثالث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى