مقالات

السّودان حيث تهيمن المخاوف على الآمال

يُروى أن رئيس الوزراء السوداني الأسبق، الصادق المهدي، حاول في لقاء له مع البابا أن يقنع الحبر الأعظم بأن حل مشكلة جنوب السودان يكمن بتحويل سكانه إلى “مؤمنين”، إما مسيحيين أو مسلمين، في إشارة إلى سكان المنطقة من أتباع الديانات المحلية أو الوثنية.

إذا صحت قصة هذا اللقاء، فعلى الأغلب كان الرجل يجامل البابا بذكر المسيحية كأحد الخيارات إلى جانب الإسلام ونَعْتِ اتباع الاثنين بالمؤمنين. ما يهمّ الرجل هو الإسلام وليس المسيحية. يتسق هذا مع خلفية المهدي الدينية والتاريخية، فهو سليل عائلة دينية معروفة أقامت دولة دينية في السودان في نهاية القرن التاسع عشر، “الدولة المهدوية”، وكان أحد أنشطتها هو الجهاد الديني وتحويل غير المسلمين إلى مسلمين، قبل أن ينهي تحالف مصري – بريطاني هذه الدولة في عام 1899.

في ظل خلفية كهذه، يختلط فيها ما هو سياسي بما هو ديني لمصلحة الثاني، ليس غريباً أن يعتبر رجلٌ كالصادق المهدي قاد أهمّ الأحزاب السودانية وتولى رئاسة الوزراء بضع مرات، أن تحويل الناس من دين إلى آخر يمثل حلاً لمشكلات سياسية حقيقية. لكن اللافت أن جنرالات السودان تأريخياً يحملون أفكاراً شبيهة كهذه، بعكس جنرالات العالم العربي الحاكمين الذين اعتادوا النظر عموماً للحركات الإسلامية بالكثير من الارتياب في إطار السعي لتفكيكها أو إضعافها على الأقل. هذا التشابه الأيديولوجي، وليس السياسي، بين الجنرالات والساسة الحاكمين في السودان الذي اختصر تحديات البلد المعقدة والكثيرة بالهوية، مَثّلَ تأريخياً جذر مشكلة الدولة في السودان، بما تتضمنه من العلاقة الإشكالية بين الحاكم والمحكوم.

من هنا، فإن الصراع بين الشمال والجنوب تأسيسي في السودان الحديث، إذ هو التمثل الأساسي والأول والطويل الأمد لهذه المشكلة حتى بعد نهاية هذا الصراع بالانفصال في 2011 وتحوّل جنوب السودان إلى دولة مستقلة. لم ينه هذا الانفصال المشكلة، بل أنهى أحد تمثلاتها فقط.

عبْر هذا الصراع الذي استمر لأكثر من ستة عقود، تارة سياسياً وغالباً عسكرياً، تشكلت عادات الحكم والمعارضة لتمتد هذه العادات إلى مناطق أخرى في البلاد، في سياق الصراع شبه المستمر بين المركز والأطراف. مَثَّلَ هذا الصراع ترسيخاً متواصلاً لبنية العلاقة الإشكالية المهيمنة في السودان: مركز يصر على هوية واحدة، عربية – إسلامية، يفرضها من أعلى الدولة، يرافقه فشل فادح في التنمية الاقتصادية واستبعاد من القرار.

على مدى العقود التي تلت الاستقلال في منتصف الخمسينات، ازداد تدريجياً عدد الجماعات المعارضة لأسلوب الحكم المركزي بأدواته العسكرية والأمنية، لتتسع هذه الجماعات وتتنوع جغرافياً. بدأت المعارضة في الجنوب “المسيحي” ثم امتدت تالياً إلى مناطق مختلفة كما سكان جبال النوبة في الوسط وقبائل البيجا شبه البدوية في الشرق، والقبائل الزراعية المتوطنة من السودانيين ذوي الأصل الأفريقي في دارفور. بإزاء عادات الحكم المتعلقة بالمركزية وواحدية الهوية وإقصاء الآخرين من صناعة القرار وفرص التنمية الحقيقية والمستدامة، تشكلت لدى الأطراف ردود الأفعال المتوقعة: تتبرم أولاً من هذه المركزية والفشل والاستبعاد، ثم يأخذ تبرمها شكلاً سياسياً فعسكرياً، عبر الاصطدام بالسلطة المركزية أو حلفائها المدعومين حكومياً.

في مفاوضات الاستقلال بين بريطانيا والسودان في 1955، شارك الزعماء الشماليون بغياب أي تمثيل للجنوب المُطالب بالفيدرالية. لم تحاول سلطات الخرطوم التعاطي جدياً مع المظالم الجنوبية المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والتنوع الديني والاجتماعي، وتفكيك التركة الثقافية العنصرية، خصوصاً المرتبطة بالعبودية كما في الغارات الشمالية المسلحة لخطف جنوبيين وبيعهم كعبيد. في سياق كل هذا كان الصوت الجنوبي ثانوياً، ويمكن تجاهله بسهولة. في الانتخابات البرلمانية العامة في 1965، بعد الاحتجاج الشعبي الذي أطاح حكومة الانقلاب العسكري بقيادة إبراهيم عبود، استُثنيَ الجنوب، ومساحته ثلث البلاد تقريباً، من المشاركة في هذه الانتخابات بحجة الاضطرابات الأمنية. ساعد هذا التغييب للجنوبيين في فوز حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي بأغلبية برلمانية وبالتالي تشكيله الحكومة. يعد الحزب إحدى أهم القوى المدنية الرئيسية التي تتشاطر مع العسكريين واحدية الهوية العربية – الإسلامية، وبالتالي ضرورة فرضها على الجنوبيين كما بقية أنحاء البلاد.

في السبعينات عندما اكتشفت شركة أميركية النفط في جنوب السودان، بنت الحكومة السودانية المصفى المرتبط بالحقول المكتشفة في الشمال وليس قريباً من هذه الحقول، في ما بدا سعياً كي لا يحصل السكان المحليون على فوائد التوظيف والتنمية المرتبطة بتصفية النفط. في آخر المطاف، أضاف النفط بُعداً جديداً للصراع الذي زاد احتدامه بسبب دخول الموارد النفطية وحيازتها خط الصراع. تضرر جنوبيون كثيرون من اكتشاف النفط، إذ قامت الحكومة بتهجير أعداد كبيرة منهم من المناطق النفطية لدواع أمنية تتعلق بضمان استمرار الإنتاج الآمن للنفط.

في غضون هذا الصراع، برزت في الثمانينات فكرة جديرة بالتأمل بخصوص “السودنة” التي اتخذت تسمية “السودان الجديد”، أي تبنّي السودان الموحد لكن التعددي العلماني المستند إلى تراثه وتنوعه الديني والعرقي الذي يتحول إلى مواطنة سودانية متساوية، بعيداً من واحدية الهوية، سواء عربية أو إسلامية أو مسيحية أو وثنية. سياسياً عنت هذه الفكرة تفكيك الحكم المركزي بما تنطوي عليه من ثنائية المركز والأطراف وتبنّي الفيدرالية ومنح السلطات للمناطق المختلفة لإدارة شؤونها.

تبنّى هذه الفكرة وروّج لها جون قرنق، الزعيم الجنوبي للتمرد المسلح بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، وتالياً نائب رئيس السودان. بسبب اتصال هذه الفكرة بالواقع السوداني وتقديمها حلاً واقعياً لإشكالية الدولة والحكم في البلد، والكاريزمية التي تمتع بها المُروِّج، قرنق نفسه، الذي قُتل في حادث تحطم طائرة في 2005، اجتذبت أطرافاً سودانية مختلفة تقع كلها تقريباً في الأطراف، وصولاً إلى انضمام سودانيين كثيرين من مناطق أخرى خارج الجنوب للحركة السياسية وجناحها العسكري، جيش التحرير الشعبي السوداني. لم يتحول صراع الشمال والجنوب إلى أداة ضغط تؤدي إلى الإصلاح، إذ انتهى الصراع بانفصال الجنوب وتحوّله إلى جمهورية جنوب السودان في 2011.

لكن هذه الصراعات الدموية لم تنته، إذ وجدت طريقها إلى مناطق أخرى في السودان في إطار مظالم شبيهة قادت مجاميع سكانية مختلفة إلى تشكيل حركات سياسية معارضة بأجنحة مسلحة، والدخول في نزاعات متقطعة لكنها مفتوحة ودموية مع الحكومة المركزية.

تفاعلت عوامل كثيرة قادت في آخر الأمر إلى احتجاج شعبي واسع أطاح الحكم العسكري بقيادة عمر البشير في 2019. هذه هي المرة الثالثة في تأريخ السودان الحديث الذي يطيح فيه احتجاج شعبي حكومةً انقلابية (الأول هو احتجاج 1964 الذي أنهى الحكم العسكري بقيادة إبراهيم عبود، ثم الاحتجاج الشعبي في 1985 الذي أطاح – بمساعدة وزير الدفاع حينها عبد الرحمن سوار الذهب – حكومة جعفر النميري). لم ينتج كلا الاحتجاجين وما قادا إليه من إعادة السلطة إلى أيدي المدنيين تغييرات بنيوية في معنى الدولة ووظيفتها وهويتها في السودان، وعلاقة مركزها في الخرطوم بالمناطق الأخرى في البلد.

احتجاج 2019 الشعبي الذي أطاح الحكم العسكري بزعامة البشير هو الوحيد الذي نجح بالبدء بالصيرورة الصحيحة، رغم تعقيدها وكثرة التحديات أمامها، لإنتاج تغيرات بنيوية حقيقية في الدولة، تقوم على “السودنة” واستعادة رؤية “السودان الجديد”.

بدأت هذه بالإعلان الدستوري المهم في 2019، الذي ألغى دستور 2005 ودساتير الولايات، ليكون هو الدستور الموَقّت في إطار فترة انتقالية بنصوصه المهمة التي ألغت مركزية الحكم واشترطت نظاماً تعددياً برلمانياً وديموقراطياً، وصولاً إلى الاتفاق الإطاري في عام 2022 الذي يحدد الكثير من التفاصيل بخصوص الفترة الانتقالية وشكل الحكم المقبل، باشتراطه سلطة مدنية بالكامل وفصل الدين عن الدولة ومنع الجيش من التدخل في السياسة وتحقيق العدالة الانتقالية.

يتعرض هذا الاتفاق المهم الذي لم يُوقع عليه لحد الآن نهائياً لتحدّ جديد من القوى العسكرية والميليشياوية الرسمية التي ترفضه سراً وتقبله علناً. التغلب على هذا التحدي هو المسار الوحيد المتيسر والعملي الذي يخرج السودان من نفقه الطويل جداً الممتد على مدى ستة عقود تقريباً.

المصدر
عقيل عباس - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى