مقالات

أردوغان يخوض أصعب انتخابات ولبنان خارج مدار التأثر والتأثير

في زيارة لاسطنبول قبل زلزاليْ السادس من شباط المهوليْن، تقصدتُ سؤال الناس في الشارع وسيارات الأجرة والمحلات عن الانتخابات الرئاسية المقبلة ومواقفهم منها. كان جلياً أنّ شعبية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بلغت أدنى مستوى لها، علماً أنّ وضع «العدالة والتنمية» لم يكن في الانتخابات السابقة على قدر عالٍ من القوة في المدن الكبرى.

وآنذاك، لم يكن قد اتضح من سيواجه أردوغان في الانتخابات، فلم تقرّر الأحزاب الستة تبنّي ترشيح زعيم حزب «الشعب الجمهوري»، كمال كليتشدار أوغلو، إلا في السادس من آذار 2023، إلاّ أنّني أذكر جملة واحدة سمعتها من أكثر من سائق سيارة أجرة: «سننتخب أي خصم لأردوغان وكفى!».

بين المهاجم الكاريزمي والكلاسيكي الهادئ

في الرابع عشر من أيار المقبل، يواجه رئيس «الشعب الجمهوري»، الكلاسيكي الهادئ، المعروف حزبه بعلمانيّته الشديدة الصلابة، لاعب هجوم سابق في كرة القدم، ملتزم دينياً وصاحب كاريزما استثنائية، وهو رئيسَ حزب «العدالة والتنمية» الذي أسسه، الديمقراطي المحافظ. وستشهد تركيا واحدة من أهم المعارك الانتخابية في تاريخها الحديث، وهي ستدور بين خصميْن على «المنخار»، ويُقدّر لهذه الانتخابات أن تقلب وجه تركيا الداخلي وطبيعة تحالفاتها الخارجية وأن ترسم مستقبلاً لعقود مقبلة، إذا ما فاز كمال كليتشدار أوغلو. فيُتوقّع أن تغيّر هذه المعركة واقع علاقات تركيا مع الولايات المتحدة وروسيا والصين، وأن تؤثر في حضورها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفي سياسة اللجوء والنزوح، والاقتصاد والدستور ونظام الحكم، كما سترخي بظلالها على أمن أوروبا والشرق الأوسط.

وبخلاف لبنان، يشارك ما بين 80 و90%من الأتراك في العملية الانتخابية، أي ما يزيد عن 60 مليون ناخب، سينتخبون مجلس نوّابهم الذي يكتمل عقده في الرابع عشر من أيار، وإذا لم يحصل أي مرشح رئاسي على 50%من الأصوات يذهب المرشحان الأولان إلى دورة ثانية تجرى في الثامن والعشرين من الشهر نفسه لانتخاب رئيس البلاد. وتأتي هذه الانتخابات في ظل أزمة اقتصادية حادة حيث بلغت نسبة التضخم 85%، ناهيك عن تداعيات أسوأ زلزال شهده القرن الحالي.

معركة شبيهة بانتخابات 2002

تشبه معركة 2023 انتخابات 2002 التي فاز فيها أردوغان بأغلبية ناجزة أعقبت أزمة اقتصادية ومالية حادة أولاً، وتداعيات زلزال العام 1999 المدمّر ثانياً. ويستخدم خصم أردوغان اليوم الحجج نفسها التي استخدمها الأخير قبل انتخابه عام 2002.

يُعرف عن أردوغان في تركيا أنّه يفعل ما يقول، فقد وفى بوعد رفع الحظر عن الحجاب كما نفّذ العديد من المشاريع التنموية الضخمة مثل مطار إسطنبول ونفقيْ مرمراي وأوراسيا، وأطلق أوّل سيارة تركية كهربائية بنسبة 100% ، وعزّز وطوّر الصناعات الدفاعية لا سيّما المسيرات، كما وعد بإعادة إعمار المناطق المتضررة نتيجة الزلزال في غضون عام… وهذا ما دفع خصمه كليتشدار أوغلو إلى تبني سياسة الوعود بدوره، من دون أن يكون لديه دليل على قدرته على التنفيذ.

في 22 نيسان الفائت، نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية حصيلة 12 استطلاعاً للرأي أجراها 12 مركزاً وشركة متخصصة، خلال شهري آذار ونيسان، وقد أظهرت تقدّم كليتشدار أوغلو على أردوغان. وبلغت أعلى نسبة لكليتشدار أوغلو 57.1%، أمّا أدناها فوصلت إلى 42.6%. في المقابل، كانت أعلى نسبة لأردوغان 45.6% أمّا أدناها فـ 39.7%. أمّا شبكة «أورو نيوز» فنشرت بتاريخ 19 نيسان استطلاعاً أظهر تقدّم «العدالة والتنمية» ليحوز على 32% من الأصوات مقابل 27،6%لـ»الشعب الجمهوري». ومن المعلوم أنّ أردوغان شديد النشاط الانتخابي ومحترف وصاحب جاذبية وقد يستفيد من الأيام الأخيرة قبل الانتخابات لتحقيق خرق.

تركيا في لبنان خلال عهد أردوغان

لم يكن لبنان على الأجندة التركية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، غير أنّه مع بدء تحوّل أردوغان عن أوروبا صوب عوالم أخرى كالقوقاز، والبلقان، والبحر الأسود، وبحر قزوين وأفريقيا، ومع تبنّيه سياسة داعمة لحركة المقاومة الفلسطينية لإحداث خرق في العالم العربي والإسلامي، ومع إطلاقه أسطول الحرية ضد حصار غزة في العام 2010، ازدادت شعبيته وشعبية «العدالة والتنمية» باضطراد ورُفعت أعلام تركيا في عدد من المناطق اللبنانية معظمها شمالية وتحديداً سنية. وبلغت ذروة الحضور التركي في لبنان مع زيارة أردوغان في العام 2010، حين خصّ منطقة الكواشرة العكارية التي تقطنها غالبية تركمانية لبنانية، بزيارة برفقة رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري. ومن الكواشرة، أدلى أردوغان بخطاب حمل فيه على إسرائيل قائلاً: «ندائي إلى حكومة إسرائيل بأن تتراجع عن أخطائها وتعتذر لأبناء المنطقة وأن تعمل من أجل السلام ومن أجل رفاهية أهل المنطقة ومواطنيها». ومن جهتها، كانت وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، التي تُعتبر الذراع الوحيدة للمساعدات التركية، قد بدأت العمل في لبنان قبل سنوات قليلة، لتبدأ بالترويج لتركيا عبر تمويل مشاريع إنمائية في المناطق اللبنانية كافة. وقد أنجزت «تيكا» خلال عقد كامل بدءاً من العام 2010 ثمانين مشروعاً، من بناء مستشفى في صيدا، مروراً بترميم آثار عثمانية وصولاً إلى تأمين سيارات إسعاف وإطفاء لطرابلس وعكار.

أبدى الأتراك اهتماماً كبيراً بلبنان قبل العام 2011، فتابعوا ملف الترسيم البحري مع قبرص وإسرائيل لرغبة تركيا بالتحوّل إلى عقدة وصل للنفط والغاز إلى أوروبا. وفي مشروع ضخم، حملت أنقرة طموحاً بمد أنابيب النفط والغاز براً من لبنان إلى سوريا فتركيا، غير أنّ الحرب السورية وتبنّي أردوغان للمعارضة السورية جعل هذا المشروع بعيد المنال. وفي خطوة صعّبت تحقيق المشروع، تأسس منتدى غاز شرق المتوسط الذي ضم إسرائيل ومصر والأردن واليونان وقبرص وفرنسا، في كانون الثاني من العام 2019. وقد خفّفت ولادة هذا المنتدى اهتمام تركيا بلبنان النفطي من دون أن يدفعها إلى التخلي عن طموحها بالتحوّل إلى Hub والحفاظ على خطوط مع لبنان الرسمي تركّزت حول دعم الجيش وقواه البحرية تحديداً.

ولم تتوانَ تركيا عن تعزيز العلاقة مع لبنان الرسمي والابتعاد عن دعم فئات محدّدة من سنّة وغيرهم مقابل دعم فضاء لبناني شامل. وقد استطاع السفير التركي في بيروت، علي باريش أولوسوي، الذي تبوّأ منصبه في آذار العام 2021، قيادة التحولات للانفتاح على كافة القوى السياسية اللبنانية متكئاً على قرار سياسي بأهمية هذه المهمة. ومن طرابلس تحديداً، تقصد أولوسوي توجيه رسائل بأنّ تركيا تتعامل مع لبنان كدولة ومؤسسات ولا ترغب في أن تكون طرفاً في أي نزاع سياسي داخلي، مشدّداً على أنّ أنقرة لا تقف إلى جانب طائفة أو مذهب بعينه.

اقتصادياً، اهتمت تركيا بالتجارة مع لبنان لكن أرقام الاستيراد منها ظلّت متواضعة بالمقارنة مع سوريا والعراق والخليج، وفي ضوء الأزمة الاقتصادية اللبنانية الخانقة، بات لبنان يسعى خلف السلع التركية رخيصة الثمن دون جهد تركي للتسويق جغرافياً.

أمّا سياسياً، فينطلق الأتراك من غياب التماس الجغرافي البري مع لبنان، حيث يعتقدون أنّ من يمتلك نفوذاً وحضوراً في سوريا يسهل عليه امتلاك النفوذ في لبنان، زدْ على ذلك عدم رغبتهم في منافسة الإيرانيين. فإلى جانب الحدود المشتركة بين كل من تركيا وإيران والاتفاقات التي أنتجتها، يرى الأتراك أنّهم بغنى عن أوجاع رأس إضافية لكثرة الملفات المتنازع عليها في المنطقة حيث يتواجدون في أكثر من ساحة. وإذا كان خطاب أردوغان قد استهوى الساحة السنية اللبنانية، غير أنّ التحولات الخليجية وصعود نجم ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وحضوره الإقليمي قد خفّفا من قدرته على الاستقطاب من دون أن يُفقده شعبيته وجاذبيته.

أي أثر للانتخابات الرئاسية على لبنان؟

لن تترك الانتخابات الرئاسية التركية أيّ أثر فعلي على الساحة اللبنانية بشكل مباشر. إلاّ أن تركيا في عهد أردوغان ليست تركيا في عهد كمال كليتشدار أوغلو، فلو فاز الأخير سيكون لبنان خارج الاهتمام التركي بالمطلق بل قد يشهد تراجعاً بالحضور السياسي والإنمائي والديبلوماسي ليشبه الأيام السابقة لعهد أردوغان. في المقابل، يُتوقّع أن يركّز العهد الجديد على إعادة العلاقات مع سوريا ومحاولة إعادة النازحين ليتقاطع في هذه الجزئية مع أردوغان الطامح إلى إعادة وصل ما انقطع مع دمشق، مع كل ما ترتّبه خطوة مماثلة من تطورات، في ظل التحوّلات الإقليمية البارزة وعلى رأسها التقارب السعودي- الإيراني.

المصدر
خلدون الشريف - نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى