مقالات

الأزمة الإقتصادية والنزوح يغلقان أسواق البقاع ويبدلان هوية بعضها


تصطدم الحركة التي تولّدها الأعياد، عادة، في الأسواق التجارية بالضيق الإقتصادي الذي يعانيه اللبنانيون على مختلف المستويات هذا العام، فتنعكس جموداً غير مسبوق، يثير الشكوك حول قابلية بعض هذه الأسواق على الصمود، وخصوصاً بعد تبدّل الظروف التي ساهمت في نشأتها.

هذه الصورة تبدو متعددة الأبعاد في منطقة البقاع، وتحديداً في زحلة وقضائها. فأسواقها التجارية التي إنتشرت سابقاً إبتداءاً من منطقة المصنع الحدودية حتى بلدة قب الياس في جنوب البقاع، عكست حالة الإنتعاش التجاري التي شهدها خط الشام البقاعي منذ توقفت الحروب اللبنانية الداخلية، بحيث شجّع تردد الزوار العرب، من سوريين وأردنيين وعراقيين، بالإضافة الى حركة العبور البرية للخليجيين، على ولادة أسواق تجارية موازية لسوق زحلة، بعد أن كان هذا الأخير قد إحتكر الدور لفترة طويلة. فتقاسمت المؤسسات التي نشأت على خط الشام، وخصوصاً في بر الياس وقب الياس وشتورا، من كانت زحلة تعتبرهم زبائنها، ونجحت أسواقها بخلق تنافس تجاري، سواء من ناحية نوعية البضائع، أو في طريقة تقديمها.

إنتهاء الدور
حتى سنة 2016 بقيت هذه الأسواق تعيش مرحلة إزدهار، شجّعت بعض أصحاب الرساميل على المغامرة في إستثمارات بقيت لفترة طويلة غريبة عن المنطقة. وبدا ذلك من ضمن رؤية مستقبلية لدور تجاري يمكن أن ينخرط فيه البقاع لاحقاً.
“الكاسكادا مول” الذي نشأ على خط شتورا المصنع في منطقة قب الياس العقارية، شكّل من حيث الشكل نقلة نوعية في الخدمة التجارية، خصوصاً بعدما حدد المستثمرون أهدافه بإستقطاب الزبائن العرب والخليجيين الذين كانوا يقصدون مجمعات بيروت.

كان يفترض بهذا المجمع أن يجمع فروع السلاسل التجارية التي أخذت مداها بالإزدهار في بيروت وجبل لبنان. إلا أن الصورة بدأت تنقلب منذ سنة 2016، إثر إنسحاب الجيش السوري من لبنان، وما تلاه من عراقيل مرورية فرضت على حدود سوريا، أولا مع لبنان، ومن ثم مع مختلف الدول العربية، إثر إندلاع ثورة سوريا. فتحولت بوابة المصنع إلى نقطة عبور في إتجاه واحد للهاربين من نيران الحرب التي إشتعلت في سوريا بإتجاه لبنان، وبالتالي غاب الزبون العربي الذي يقصد عادة لبنان لمتعة التسوق أو السياحة.
كانت تلك بداية مرحلة تراجعية في الاسواق التجارية البقاعية، التي تلاشى بعضها بشكل كبير.

تناغم مع طلبات الزبائن
يتذكر أبناء القرى التي تتوزع على خط الشام الدولي كيف كانت شاحنات نقل الجيش السوري تتوقف في منطقة المصنع تحديداً لإبتياع حاجيات ضباط الجيش من الأدوات الكهربائية، في مقابل تهافت أبناء قرى البقاع متواضعي الدخل الى محلة المصنع لشراء إحتياجاتهم المنزلية من أسواقها الشعبية التي غزتها البضاعة المهربة. حينها ولد في منطقة المصنع سوق متناغم مع طلبات زبائنه، فإزدهرت خصوصا محلات بيع الأدوات الكهربائية، بالإضافة الى الأحذية والألعاب والملبوسات ولوازم المنازل الشعبية .
جولة ميدانية في هذه المنطقة حالياً، تكشف عدد أبواب المؤسسات التي أقفلت نهائيا، بعد سنوات من نضال أصحابها لإستعادة حركتها السابقة.

يقول صاحب إحدى المؤسسات الذي حلّ بالمنظفات التي يبيعها مكان مستثمر ببيع الأدوات الكهربائية، أن دور هذا السوق إنتهى. فقد فقدت المؤسسات التي كانت تنبض بالحركة سابقاً الكثير من زبائنها منذ إندلاع الحرب السورية. ليزيد الغلاء من عزلتها مؤخراً، وخصوصاً مع إرتفاع كلفة التنقلات. فالزبون السوري إختفى كلياً، أما الزبون اللبناني فيمكنه أن يقصد مؤسسات مشابهة موجودة في مناطق أقرب إليه، ما جعل صمود سوق مجدل عنجر – المصنع يعتمد بشكل على أهالي المنطقة وجوارها الذين لا يخلقون دورة إقتصادية كافية بالنسبة للتجار.

على خط الشام نفسه، وإنما في منطقة برالياس العقارية يبدو الواقع مشابهاً. وإن كانت طبيعة المؤسسات التي إمتهن العديد منها بيع الملبوسات والأحذية، مختلفة تماماً. تبدو الصورة هنا إنعكاسا لما تشهده زحلة أيضا من تراجع في حركة الزبائن.

سوق النازحين
تغزو مشهد طريق الشام في برالياس حالياً صناديق الخضار والفاكهة التي تباع على الطرقات، لتخفي حالة البطالة المقنعة التي تعيشها الأسواق التجارية من خلفها. فيما يبدو لافتاً إنتقال الحركة التجارية من الطريق العام الى مدخل البلدة الرئيسي. وفي ذلك ترجمة لتبدل الدور الذي بات على أسواق برالياس التجارية أن تلعبه، وخصوصاً بعدما إستقطبت المدينة العدد الأكبر من النازحين السوريين، الذين إستوطنوا البلدة.
على رغم المعارضة التي رافقت نشأة هذه الأسواق عند مدخل بلدة برالياس، والحملة الأمنية التي شنت لمكافحتها قبل سنوات، بذريعة منع المضاربة الأجنبية، تمدد سوق برالياس الشعبي عند مدخلها، بحيث بات يمكن الحديث عن سوق متكامل يخدم حاجات النازحين السوريين الذين يقصدونه من مختلف القرى البقاعية.

لم يعد مدخل بر الياس يشبه نفسه منذ بدء أزمة النزوح السوري. بل يبدو عبوره دخولاً أو خروجاً كإنتقال لأحد الأسواق الشعبية في أرياف سوريا. عدد المؤسسات التي نشأت في هذه المنطقة يخبر عن حالة إنتعاش واسعة شهدها هذا السوق الذي يتناسب مع القدرات الشرائية للطبقات الأكثر تهميشاً.
وليست ظاهرة توسع إنتشار البازارات سوى إنعكاس للتردي المعيشي. وقد توسّعت الأخيرة في أكثر من بلدة بقاعية، وإختارت المساحات الضخمة على الطرقات الدولية والاوتوسترادات خصوصاً. لتحل مكان مؤسسات أخرى كان يفترض أن تؤمن قيمة مضافة في نوعية بضائعها وطرق تقديمها.

إحباط الطموح
مجمع ال Zone Gate في منطقة بوارج هو واحد من هذه المؤسسات. وهو يضم مساحات ضخمة من المحلات التجارية التي لم ترتق بحركتها الى مستوى الطموحات التي وُضعت لها. فالمجمع كان يفترض أن يؤمن خدمة تجارية تترافق مع خدمة سياحية مخططة للمكان، إلا أن هذه الطموحات أحبطتها الظروف السيئة التي مرت على لبنان وسوريا، لتمعن جائحة كورونا العالمية، والأزمة الإقتصادية المحلية التي أعقبتها في القضاء عليها.

والإحباط هنا يتراكم على إحباطات مشابهة لطموحات أخرى وضعت للتوسع التجاري في أكثر من منطقة بقاعية. كمشروع التجمع التجاري الذي نشأ أيضا في منطقة ستارغيت بمدينة زحلة، ولم يكتب له الإنطلاق.

هذا في وقت بدا توسع الأسواق التجارية على بولفار مدينة زحلة أو في أطراف المدينة غير متناسق مع الحركة التجارية المنكمشة وزبائن المؤسسات المستمر بالتراجع.

لم يعد الإستثمار في الألبسة بالمقابل يغري التجار الزحليين. بل بات جيل الشباب يتجه خصوصاً الى الإستثمار في مجال الملاهي الليليلة والحانات وحتى المقاهي والمطاعم، التي حقق عدد منها إزدهاراً، يتماشى مع متطلبات أبناء قرى البقاع عموماً. خصوصاً ان زحلة تشكل بموقعها وبيئتها المنفتحة، نقطة جذب وحيدة في محيطها، تمكّنها من لعب هذا الدور.

في السنوات الأخيرة يبدو تجار المدينة في حالة إنتظار متواصلة، يعوّلون على حركة المغتربين، الذين يتسوقون في بلدهم، كخدمة إجتماعية، أكثر منها علاقة زبون مع سوق يرضي ذوقه ويتلاقى مع حاجاته.

المصدر
لوسي بارسخيان - المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى