سياسة

سب ولعن الرموز الدينية ما بين الماضي والحاضر

بقلم فضيلة القاضي الشيخ الدكتور محمد النقري

لا يمكن إنكار مسألة سب الصحابة عند الشيعة حتى الأوائل منهم، فسب الصحابة يعود إلى القرون الأولى من الإسلام، حيث تعالت الأصوات كرهاً وتجريحاً بأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مما أدى إلى مقتل الأخيرين، ولم يقتصر أمر السب تجاه هؤلاء الخلفاء، وإنما أيضًا يذكر لنا التاريخ بأن الخليفة الرابع الامام علي بن أبي طالب عليه السلام كان يُسب ويُلعن على المنابر بأمر من بعض الخلفاء الأمويين، وقد ابتدع هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان ولكنه ألغي في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. يقول المسعودي في مروج الذهب.وكان عمر في نهاية النسك والتواضع، فصرف عُمَّال مَنْ كان قبله من بني أمية، واستعمل أصْلَحَ من قدر عليه، فسلك عُمَّاله طريقته، وترك لَعن علي عليه السلام على المنابر، وجعل مكانه ربنا اغفر لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإِيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم وقيل: بل جعل مكانه ذلك” إن اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي” – الآية -، وقيل: بل جعلهما جميعًا، فاستعمل الناس ذلك في الخطبة إلى هذه الغاية” (مروج الذهب – (ج 1 / ص (428). وهذا هو المتّبع عند أهل السنة في خطبهم ومساجدهم ومجالسهم ومعتقداتهم وفتاويهم إلى الآن.فتاريخ السب واللعن كان سابقاً على نشأة ما سيعرف لاحقاً بالسنة والشيعة. ولكن الحق يقال بأن شتم الإمام علي توقف منذ عهد عمر ابن عبد العزيز واستمر النهي في عهد العباسيين اولاد عم الامام علي والعثمانيبن، دون أن يقابل عند المناصرين لأهل البيت بالمنع والتحريم رغم مقالات أئمة أهل البيت عليهم السلام التي كانتتنهي عن ذلك. فلقد ورد عن الإمام الباقر « عليه السلام» قوله : “لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم”( الكافي ج 2 ص 360 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج 12 ص 297… وغيرهما الكثير من المراجع)وورد أيضاً عنه قوله : « قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم ، فإن الله عز وجل يبغض اللعَّان السبَّاب الطعَّان على المؤمنين ، الفاحش المتفحش ، السائل الملحف ، ويحب الحيي الحليم ، العفيف المتعفّف »( الأمالي للصدوق ص 326 وروضة الواعظين ص 370 ومشكاة الأنوار للطبرسي ص 334… وغيرهم من المصادر).هذا الموقف المعارض للشتم واللعن ما زال سائدا عند كثير من المرجعيات الشيعية، ومع ذلك فما زال قسم كبير منهم يجوّزون ذلك بل ويجعلونه فرضا عليهم في صلاتهم وادعيتهم رمجالسهم ويستندون إلى اجتهادات يبنوها على ما كان عليه الأمر في العصر الأموي الأول من شتم ولعن للامام علي عليه السلام والذي سرعان ما توقف في عهد الخليفة عمر ابن عبد العزيز. هذه الفئة من المرجعيات المتشددة هي التي ما زالت إلى الآن تحرض على الشتم واللعن في كل المناسبات الدينية وفي كل المجالس وعلى شاشات التلفزة وصفحات التواصل الاجتماعي وفي المظاهرات والاحتجاجات، بل هي التي تحرض وتنال من سمعة المرجعيات الشيعية المعتدلة وتتهمها بابشع الاتهامات وتدعو إلى مخالفتها ونبذها.كما سبق أن أصدر آية الله خامنئي فتوى عام 2010 حرّم بموجبها الإساءة إلى السيدة عائشة أو النيل من الرموز الإسلامية لأهل السنة والجماعة، وقال : “يجب ألا يسمح بانتهاك حرمة زوجات النبي الطاهرات” مضيفاً أن “زوجات النبي محترمات وكل من يهين إحداهن فقد أهان النبي. أقولها وبشكل قاطع”. وأوضح “أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب تعامل مع (زوجة النبي محمد) السيدة عائشة على ذاك النحو. تصرّف بهذا القدر من الاحترام مع امرأة جاءت لتحاربه. لأنها كانت زوجة للنبي، وإلا فإن أمير المؤمنين لا يراعي أحداً دون سبب. لذلك فإنه يجب ألا يكون هناك أي انتهاك”.لقد غاب عن هؤلاء المرجعيات المتشددة بأنه ما جرى من حروب وفتن ولعن قد مضى على بدايته الف وأربعمائة سنة ولم يكن في حينها لا سنة ولا شيعة. بل ان نشأة السنة كمجموعة فقهية وعقائدية فيما بعد كانت للتبرّأ من هذه الفتن بالذات. فأهل السنة ليسوا طائفة واحدة وإنما أتوا من مشارب متعددة و من جماعات ينتمون الى آراء مختلفة، اجتمعوا على مقولة واحدة : ” تلك دماء طهر الله منها سيوفنا أفلا نطهر منها السنتنا”، أهل السنة والجماعة من أي مشرب كانوا يؤمنون بأن الأحداث والفتن التي عصفت لفترات طويلة بالعالم الإسلامي سواء بموضوع خلافة النبي او بموضوع أحقية الأئمة الاثنى عشر بالخلافة او بموضوع التجريح لمواقف بعض الصحابة، هي أمور أصبحت وراءنا ونترك الحكم فيها لله تعالى، لا نخوض فيها ولا نتناقل كتبها ولا نتكلم عن أحداثها ولا نستحضر ماضيها، فالذين لعنوا وشتموا وقاتلوا أهل البيت الأطهار أصبحوا جيفاً تحت الارض، فأين هو الرأي السديد بل وأين هي الحكمة في نبش قصص الماضي واعادة إحيائها واعادة محاكمة اطرافها في كل مناسبة وفي كل سانحة صنعناها عن قصد لنفخ نار الفتن وبث الحقد والكراهية فيما بيننا؟ أهل السنة عندما اجتمعوا على هذا الرأي وباتوا يعرفون بأهل السنة والجماعة انتهجوا نهج المفاضلة بين فضيلتين : السلم الأهلي والعدل الإجتماعي، فآثروا السلم الأهلي على العدل الاجتماعي حقناً للدماء وطلباً للوحدة بين ابناء الأمة والعقيدة الايمانية الواحدة.أليس من الحكمة ان نتوقف عن قراءة وتدريس الكتب الصفراء التي كتبت في عصور الفتن والظلام والتي تسمع من بين كلماتها وسطورها صيحات اللعن والتخوين ودقات طبول الحرب ورائحة القتل؟ أليس من الحكمة ان ندع الماضي الذي مهما ارتقت نصوصه التاريخية فلن تكون الا روايات عن أحداث تحتمل الصدق والكذب أوالشك والمبالغة ؟ أليس مما يحبه الله ورسوله والأئمة وما يقتضيه الفكر والمنطق ان نتطلع إلى الحاضر الملموس والى المستقبل الموعود لنبني انسان الغد ونزرع فيه قيم المحبة والسلام والوئام؟

402Ahmad Bakur and 401 others107 Comments18 SharesLikeCommentShare

الشيخ د. محمد نقري

قاضي بيروت الشرعي، واستاذ جامعي. مدير عام دار الفتوى سابقا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى