مناكفات رئاسية فوق جثث المؤسسات
كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
فرض البيان الذي صدر أمس الاول عن نادي قضاة لبنان، الذي استهجن ان تبحث الحكومة في جلسة استثنائية ما تسمّيه «خللاً» في عمل السلطة القضائية، وما يشكّله من «سقطة تاريخية»، إعادة قراءة لما تضمنه من توصيف سوريالي يترجم ما في الكتب من نظريات، في مقابل إنكار وتجاهل كثير من الحقائق التي تلقي المسؤولية وتوزعها على مختلف الأطراف بمن فيهم من جسم القضاء. وهو ما سمح باستمرار المناكفات الرئاسية فوق جثث المؤسسات. وعليه، كيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟
ليس من السهل ان يُشهر اياً كان سيفه عند تفسيره بطريقة معمّقة لشكّل بيان «نادي القضاة» ومضمونه وتوقيته، من دون الإشارة إلى ما يقود إلى مثل هذه الملاحظات الهادئة التي يحملها البيان في طياته والمعايير «المثالية» التي أشار إليها في شكل العلاقات المطلوب ان تكون ما بين السلطات، وخصوصاً تأكيد استقلالية القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
فالبيان الذي صدر أمس الاول عن النادي – الذي يحظى بثقة نسبة كبيرة من الجسم القضائي- عقب المواجهة التي عاش لبنان من خلالها مظهراً من مظاهر النزاع بين أهل الحكم والحكومة كما فرزتها المواقف من الأداء القضائي في بعض الملفات، ومدى ارتباطها الموضوعي بالنزاع القائم، عشية دخول مدار الانتخابات النيابية وما يمكن ان تقود اليه كمعبر اجباري يدفع إلى الخوض في الاستحقاق الرئاسي في المرحلة المقبلة.
وقبل الدخول في ما فتحه البيان من نقاش على نطاق واسع من ضمن السلطة القضائية وخارجها، فقد كان واضحاً انّ الظروف التي قادت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى توجيه الدعوة الى جلسة استثنائية عاجلة لمجلس الوزراء صباح السبت الماضي، كانت نتيجة الغضب الذي انتابه مما سمّاه الأداء القضائي الذي تسبّب به بعض القضاة ـ كما عبّر عنه محيطه – بدفع سياسي وحزبي يوفّره رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» اللذان يستظلان صمتاً من قوى فاعلة أخرى ترغب ان تمضي هذه الفترة بالتفرّج على المواجهات الصغيرة الجارية، شرط ان تبقى خارج ساحتها السياسية والحزبية. وكل ذلك كان سبباً لحالة احتقان حكومية وسياسية ومالية بقيت خافتة، إلى ان طفت على سطح الأحداث بفعل تنامي الأجواء السلبية عقب صدور قرارات إضافية أدّت جميعها الى تجميد أصول 7 مصارف، ومنع مديريها ورؤساء مجالس إدارتها من السفر، في ثلاثة إجراءات قانونية متفرقة منذ 14 آذار حتى يوم الجمعة الماضي، وأخرى اتُخذت في بيروت وطرابلس، بإلقاء الحجز التنفيذي على خزنات وأموال صناديق مصرفين تلت توقيف رجا سلامة شقيق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، على خلفية الاشتباه به كوسيط يمثل شقيقه في ارتكابه مخالفات مالية استدعت توقيفه بعدما استُدعي كشاهد.
وبمعزل عن الجوانب القانونية لهذه الإجراءات القضائية، فلم يكن خافياً أنّها تسببت باختلاق أجواء سلبية في العلاقة بين السرايا الحكومية والقصر الجمهوري، عززه اصطفاف غير معلن الى جانبهما، بعد اتهامات وجهّتها أوساط الأول بالتدخّل والتشجيع على مثل هذه القرارات التي ستؤدي الى اختلاق أزمات مالية تزيد من خطورة الوضع النقدي، لمجرد الانتصار لحق مودع مقابل إلحاق الأذى بعشرات الآلاف من أمثاله، عدا عمّا يمكن ان تؤدي اليه من قطع العلاقات ما بين القطاع المصرفي اللبناني والمصارف الدولية المراسلة التي أبقى بعضها التواصل قائماً ولو بنحو محدود بين الأسواق المالية اللبنانية والعالم، ويمكن ان تؤدي الى انقطاعها نهائياً وعزل لبنان عن العالم إن بقي التمادي قائماً.
وعلى هذه الخلفيات عادت المراجع السياسية والمالية الى مضمون بيان نادي القضاة لتشير، الى انّ واضعيه يدركون، قبل التشديد على «الحاجة الى القضاء الحر والمستقل»، كثيراً من الحقائق التي تسود السلطة القضائية، «فأهل مكة أدرى بشعابها»، وسبق لهم ان عبّروا – ومعهم من هم في مواقع حساسة – عن خطورة ما يؤدي الى انقسامات داخلية تضعفها وتنعكس على هيبتها. وهم في الوقت نفسه لديهم أدقّ تصنيف لما جناه بعض اهل السلطة عليها، وما قادت إليه تصرفات بعض القضاة الذين استجروا الخلافات السياسية والحزبية والطائفية الى الجسم القضائي، عندما اتكأوا على مواقع سياسية وحزبية للوصول الى المواقع الدسمة. وهي كلها أدّت في وقت من الأوقات الى تعطيل المناقلات القضائية وحرمت متقاضين مستحقين من حقوقهم، تزامناً مع تصنيف جديد للملفات والدعاوى القضائية التي تُفتح بسرعة قياسية وأخرى تُحفظ في الجوارير العميقة التي اعتلاها الغبار لمجرد توصية سياسية او حزبية او طائفية.
ولذلك، وعلى وقع الإضراب التحذيري للمصارف الذي بدأ امس، بعد يومين على إفراغ صناديق الـ «ATM» من العملة الوطنية من دون إعلان مسبق، رفضاً لما سمّته قرارات «تعسفية» و»شعبوية» بتحميلها لوحدها مسؤولية ما آل إليه الوضع، ثمة من يدعو الى النظر في ما يجري من زوايا أخرى، تحمي القطاع المصرفي وتبقيه خارج المناكفات السياسية التي تتحكّم بالعلاقات بين أهل الحكم والحكومة، بنحو لم يعد خافياً على أحد. فهم بالغوا حتى الأمس القريب في استخدام مختلف المؤسسات الإدارية والمالية والقضائية والنفطية والخدماتية وصولاً الى الأمنية منها، مخافة الوصول الى القطاع المصرفي الذي ينعكس المسّ به على هذه المؤسسات كافة وعلى مصالح اللبنانيين دون استثناء، هذا قبل ان يؤدي أي تطور، إن تمادت الجهات المعنية في غيها واستنسابيتها لأسباب وخلفيات سياسية وانتخابية وحزبية، الى فقدان آخر مظاهر الثقة التي ما زالت تربط لبنان بالخارج.
وعليه، فقد أدّت هذه التطورات وما عكسته من مؤشرات سلبية ارتقت الى مرتبة خطيرة جداً، الى انطلاق مساعي بعض الوسطاء – الانتحاريين- من أجل تهدئة النفوس، وسط صعوبات جمّة رُصدت مسبقاً، وهي تهدّد أي مسعى من هذا النوع. ففي المعلومات التي تبلّغتها جهات دولية وأممية وديبلوماسية تسعى الى مساعدة لبنان في إحياء الثقة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تزكّي الخوف من حجم المناكفات السياسية الجارية، والتي بلغت الذروة بين أهل الحكم والحكومة، في أسوأ الظروف الداخلية والاقليمية والدولية. وهي لم تعد توفر أي ملف او قضية صغيرة ام كبيرة استحضرتها الى ساحة النزاع من دون رادع، فأدخلت البلاد في «بوغاز» خطير يتعدّى مساحة القضاء الى ما تبقّى من مؤسسات، وحوّلت قسماً منها «جثثاً» لا قيمة لها، لمجرد توقف خدماتها الحيوية وتجميد أخرى في وقت قريب.
وختاماً، وإن اعتقد البعض ممن يقودون الرهانات الخاطئة، لا بدّ من التأكيد، انّهم لن يستطيعوا اليوم تحقيق أهداف لم ينالوها في محطات سابقة، وهم مخطئون من دون إدراك أثمان محاولاتهم. والأخطر ان يصدّقوا المقولة الشهيرة للمفكر والسياسي الإيطالي نيقولو مكيافيلي الذي قال «انّ الغاية تبرر الوسيلة»، ليفسّر معادلة بسيطة تبرّر «القيام بأمر خاطئ للوصول إلى نتيجة إيجابية» من منظار صاحب الخطوة، فيما كل الوقائع تشي بخطورة هذه المعادلة التي لم يعد يحتمل لبنان مثل هذه التجارب.