عربي ودولي

نقطة تحوّل في مسار ومستقبل أوروبا

اتخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القرار الصعب والجريء، وربما المتهور، في إعلان الحرب على أوكرانيا وحل المشكلة عن طريق القوة العسكرية، واضعا العالم في حالة من الذهول وواضعا أوروبا أمام أخطر حرب تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية وتحمل في طياتها شرارات حرب عالمية ثالثة. لكن الهجوم الروسي لا يشكل مفاجأة والأزمة الأوكرانية ليست طارئة… مسار طويل من الأحداث المتراكمة ومن السلوك الروسي الذي كان يخفي مشروعا طموحا الى إعادة كتابة التاريخ وإعادة صياغة الجغرافيا.

تبدأ «القصة» أو المشكلة مع انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991 عندما استقلت عدة جمهوريات ومنها أوكرانيا. وبدا واضحا منذ بداية الاستقلال أن هناك تشابك مصالح بين أوكرانيا وروسيا، ما جعل الاستقلال الكامل أمرا صعبا، فهناك القاعدة البحرية الروسية في شبه جزيرة القرم، وهي قاعدة وحيدة للروس على البحر الأسود والتخلي عنها يفقد روسيا الكثير من قوة أسطولها البحري وقدرته على الوصول إلى المياه الدافئة. ومن ناحيه أخرى هناك مجموعات سكانية روسية كبيرة في القرم ومنطقتها على الحدود الروسية الأوكرانية في دونيتسك ولوغانسك تحديدا ترفض البقاء ضمن أوكرانيا وتطالب بالانضمام إلى روسيا الأم، مما يعطي الذريعة لتدخل عسكري يحمي تلك المجموعات ويدعم استقلالها عن أوكرانيا لتكون خط دفاع متقدما لروسيا. وأخيرا وليس آخرا هناك الغاز الروسي الذي يمر 80% منه عبر أوكرانيا إلى أوروبا ويشكل ثلاثة أرباع دخل شركة الغاز الروسية الرئيسية «غازبروم». ومن هنا ترى القيادة الروسية أن نزعة الأوكرانيين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وسعيهم لعضوية حلف الناتو بعد القضم الروسي لشبه جزيرة القرم، تعرض مصالحها للخطر الحقيقي والوجودي. وقد ابتدأ التصعيد العسكري منذ شهر أيلول 2014 حين قام حلف الناتو بمناورات عسكرية مع الجيش الأوكراني و1500 جندي من 15 دولة عضوا في الحلف، وقامت روسيا بمناورات أخرى مواجهة مع بيلاروسيا ودول الأمن الجماعي التي شكلت سابقا الاتحاد السوفياتي.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسنوات عجاف مع بوريس يلتسين بدأ صعود نجم فلاديمير بوتين كعراب أو مهندس لمشروع عودة روسيا الى الساحة الدولية وتثبيت الموقع الجيوسياسي لروسيا كقوة إقليمية كبرى، والمواجهة المحدودة في جورجيا عام 2008 كانت ستفضي حكما، ولو بعد سنوات من وقوعها، إلى مواجهة أكبر مع دولة، ليس فقط أكبر من جورجيا من حيث المساحة وعدد السكان وحجم التأثير، بل أيضا تجمعها مع الغرب صلات أعمق، إلى درجة اعتبارها أهم حليف له بين دول الاتحاد السوفياتي السابق. المواجهة حينها لم تخض مباشرة، كالعادة، بل عبر وكلاء، ليس فقط بسبب الافتقار إلى ذريعة للتدخل المباشر، بل أيضا لأن النظام الذي حكم كييف، بعد سقوط حكومة فيكتور يانوكوفيتش الموالية لروسيا، لم يكن هو الآخر يحظى بشرعية أكبر من تلك التي حظي بها متمردو الدونباس في دونيتسك ولوغانسك. الافتقار المتناظر إلى الشرعية لدى طرفي الصراع حصر المواجهة بداية في إطار محدد، ولم يقد بالتالي إلى اشتباك مباشر بين روسيا والغرب. هذا أبقى الطابع الجيوسياسي للصراع في إطار الفضاء الروسي، بحيث لم يتطور إلى نزاع أوسع مع الغرب كما يحصل حاليا.

تطلب الأمر سنوات لامتلاك الأدوات والقدرات في مشروع استعادة النفوذ الكبير الذي كان يحظى به الاتحاد السوفياتي، وإمكانات المواجهة مع الغرب… تطلب الأمر الوقت والجهد كي يصل بوتين الى استعادة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا من دون رد فعل يذكر، وكي يتمكن من تحقيق العودة الى التأثير في أروقة المؤسسات الدولية، وإدارته جهودا كبرى للتشبيك، اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا، مع الصين والدول الصاعدة. وجاء صعود المحور الصيني الإيراني الروسي لتحدي النظام الدولي بعد الحرب الباردة كأهم تطور جيوسياسي، فجميع مكونات هذا المحور تسير مع بعضها بشكل متناغم لخدمة هدف واحد هو إفشال الاستراتيجية الأميركية، كل في نطاقه. وعلى الرغم من التنافس الجيوسياسي المحموم في سورية وليبيا، وفي عموم دول المشرق العربي تمكنت موسكو من استيعاب تراجعها في ليبيا، والتقدم مجددا الى واجهة التأثير الدولي في سورية. فحسمت، عبر مشاركتها في الحرب بدءا من أيلول 2015 مع حلفائها في إيران وسورية والمنظمات الحليفة، الحرب لمصلحة خيارها الكبير هناك. لقد تم حسم المسار العسكري بصورة لا تقبل العودة الى الوراء، الأمر الذي يعد نجاحا لاستراتيجية الأمن القومي الروسي.

ما هي الآفاق السياسية للحرب؟

1- احتلال اقليم الدونباس. إطلاق عمليات عسكرية واسعة انطلاقا من المحافظات الجنوبية الروسية المحاذية لشرق أوكرانيا، وكذلك من شبه جزيرة القرم، وعمليات بحرية من بحر آزوف والسيطرة على جميع المناطق الجنوبية الشرقية، ووصل القرم مع حوض الدونباس وتحويل بحر آزوف إلى بحر روسي مغلق بالكامل، بذا تمنع روسيا عمليا مرور السفن البحرية التابعة لـ«الناتو» عبر مضيق كيرتش، كما تسيطر على أهم ميناء لتصدير المواد الخام والمواد الزراعية، وتسيطر على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية. هذا الاحتمال أقل كلفة نظرا لوجود أقلية روسية وازنة في هذه المنطقة المرتبطة تاريخيا واجتماعيا بروسيا، ولن يواجه الجيش الروسي مواجهة قوية من السكان المحليين.

2 – توغل القوات الروسية من أراضي بيلاروسيا شمالا، وهي أقرب نقطة إلى العاصمة الأوكرانية كييف، يتزامن مع اختراق سريع لجبهة الشرق عبر أراضي إقليمي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليين عن أوكرانيا، فضلا عن توجيه ضربات مكثفة ومركزة من البحر إلى مواقع البنى التحتية العسكرية الأوكرانية.

باختصار، في حساب التكلفة بالنسبة لروسيا، لن تكون الحرب في أوكرانيا سهلة وخاطفة. وإضافة إلى تكبد خسائر كبيرة نظرا لتطور الجيش الأوكراني خلال السنوات الأخيرة، وتزويده بترسانة نوعية من الأسلحة وبخاصة خلال الأشهر القليلة الماضية، فإن الخيار العسكري سيهدم آخر الجسور بين الشعبين الروسي والأوكراني، ثم إنه سيجبر روسيا على خوض حرب استنزاف، خاصة في مناطق غرب أوكرانيا المعروفة تاريخيا بنفورها من سيطرة الإمبراطورية الروسية، ولاحقا الاتحاد السوفياتي. بل فوق كل هذا ستدخل روسيا في مواجهة مع عقوبات سياسية واقتصادية غربية، يلوح الغرب بأنها ستكون كرة ثلج متدحرجة ستدفع موسكو ثمنا باهظا لها، كما ستدفع الحرب إلى تعزيز «الناتو» (حلف شمال الأطلسي) قواعده وقواته في شرق أوروبا. من جانب آخر، على الصعيد الداخلي الروسي، ليس مضمونا للكرملين منع أي ردود شعبية رافضة للحرب، قد تأخذ خطا متصاعدا إذا طال زمن العمليات الحربية وبدأت العقوبات الغربية تلقي بثقلها على الاقتصاد الروسي.

تعد اوكرانيا ورقة مهمة في إطار صراع جيوسياسي، تريد روسيا من خلاله تثبيت موقعها كدولة كبرى في عالم متعدد الأقطاب. وبالتالي، فرض منظومة أمنية جديدة في أوروبا.

هذه المواجهة الحالية نابعة، ليس فقط من وصول خط الصراع الذي بدأ في جورجيا قبل انتقاله لاحقا الى أوكرانيا على شكل نزاع انفصالي وقضم للحدود والأقاليم إلى ذروته، بل لاستشعار روسيا أن هذا التصاعد مترافق مع تآكل مستمر في البنية الإقليمية المحيطة، الفاصلة بينها وبين مناطق نفوذ حلف شمال الأطلسي ومن خلفه الولايات المتحدة.

ولذلك تمحورت طلباتها، استباقا للنزاع الحالي، حول الضمانات الأمنية، المراد من الغرب الاستجابة لها، لجهة إيقاف تمدد حلف «الناتو» شرقا، والحد من البنية التحتية العسكرية التي يضعها في دول أوروبا الشرقية. عدم حدوث ذلك لن يقود إلى مواجهة عسكرية بالضرورة، ولكنه سيضع الصراع على مسار تصاعدي، حتى بعد انتهاء الأزمة الحالية، على اعتبار أن انضمام أوكرانيا إلى الحلف ليس بالأمر الجديد، وهو لا يختزل المشكلة أصلا، كون التمدد باتجاه روسيا يحصل مع عضوية أوكرانيا في «الناتو» أو من دونها. فهناك رغبات جامحة لدى الرئيس بوتين في صناعة تاريخ جديد لروسيا والشعوب السلافية، ويعتقد أنه لديه فرصة سانحة الآن لعمل شيء ما رغم هشاشة وضعه الاقتصادي مقارنة بالصين والولايات المتحدة والمعسكر الغربي بأسره.

فلاديمير بوتين التي ستحدد مسيرته الأزمة الحالية مع أوكرانيا وبين روسيا والمعسكر الغربي بأكمله، مقتنع أن هذه فرصة محددة نادرة وفريدة من نوعها له لإثبات حضوره على الساحة الدولية، وسط التصاعد الخطير والمتنامي للقوة الصينية وهيمنة أميركا على المشهد العالمي. ويرى في ما يحدث اليوم من تداعيات الوضع الاقتصادي والصراعات المتصاعدة في مناطق مختلفة حول العالم، فرصة ذهبية لفرض نوع من الواقع السياسي على الخلفية الفوضوية الحاصلة في العالم اليوم. وروسيا الآن في ظل بوتين ليست روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، عسكريا على الأقل مصحوبة بتحركات دولية في أكثر من بقعة عالمية ودولية تسعى إلى تثبيت مكانتها كقوة أساسية على قمة النظام الدولي، مع الولايات المتحدة والصين وأي قوة أخرى صاعدة.

المصدر
الأنباء الكويتية

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى