مقالات خاصة

إلى أن يأتي محمد أو إيلان أو ألكسندرا أو ريان جديد!

الإفتتاحية بقلم مصطفى عبيد

الناس تصرخ وتحاول الدخول، الحفرة عميقة وضيقة ولا أحد يستطيع الوصول، يتعالى الصراخ ولكن لا أفهم لما يصرخون، أصوات الآلات تملأ المكان والجميع مشغولون وقلقون وخائفون، وأنا أخرج من بينهم فأتعجب مما بهم، وبينما أنظر حولي تلتقي نظراتي وأنا أرتفع بنظرات أمي لأراها تضم كفيها وتذرف الدموع وشفتاها تتمتمان بخفية وإصرار وكأنها تتلو الصلاة، وإلى جانبها أبي يطوقها بذراعه وهو مصدوم يكاد ينهار.

أمي، أبي، أصرخ بأعلى صوتي لأريهم لباسي الأبيض وأنني بخير ولكن لا يسمعونني، أمي اختفى الألم الذي شعرت به عندما ارتطمت بأعماق البئر واختفت الجروح والدماء وزال البرد وذهب الجوع والعطش، أمي أنظري أنا أطير، أمي لا تبكي أنا بخير، أمي…

هذا هو الحدث الذي شغل العالم أجمع منذ الثلاثاء الماضي ولغاية مساء الإثنين حيث وري الملاك ريان ابن الخمس سنوات الثرى إلى جانب من سبقوه من أطفال كانوا يحلمون بطفولةٍ كلها حب ودفء، أصبح الملاك النائم في أعماق البئر نقطة الإرتكاز التي دارت حولها الكرة الأرضية لستة أيام متواصلة تهافت خلالها الملايين ليتابعوا ويترقبوا تفاصيل عملية الإنقاذ وهم يلجون بالدعاء والصلاة لإنقاذ هذا الطفل النائم في أحضان البئر.

ريان لم يكن الأول ولن يكون الأخير، سبقه الكثيرون ممن فقدوا طفولتهم وبراءتهم وأحلامهم بسببكم أنتم حكام الذل والهوان، سبقه أطفال اليمن والعراق وسوريا ولبنان والسودان والصومال قتلوا من محتل أو طاغية أو فارسي حاقد أو إرهابي كافر، أو من إهمال ملك وحاشية لا حفظهم الله، أو ماتوا من الجوع والبرد أو على أبواب المستشفيات كما في وطني لبنان.

سبقه محمد الدرة الذي استشهد وهو يحتمي خلف أبيه عندما تمت محاصرتهم من عدوٍ غاصب وغاشم وتلقى رصاصات في ركبته وظهره ونزف دمائه الطاهرة ليصبح رمزاً لثورة لم تكن وفيةً لطفلها، نظمتم الأغاني والأناشيد وأحييتم الذكرى تلو الأخرى دون أن تحققوا حلم محمد، أين حركات التحرير الفلسطينية التي انشغلت عن أطفال فلسطين بتصفية حساباتٍ دنيئة، أين من يدعون أنهم المقاومة والممانعة وأين وجهوا سلاحهم المزيف بينما أطفال كثر استشهدوا برصاص الإحتلال وآخرون اختفوا في الأقبية والسجون؟ وحكام العرب أين هم مما حصل؟ وبماذا استفاد أطفال فلسطين من الضمير العربي الذي أنشدتموه ولكنكم أبعد ما يكون من أن يكون لكم ضميرٌ وهيهات أن تكونوا تحملون شرف وشجاعة وكرامة العربي!

سبقه إيلان، إبن الثلاث سنوات الذي رماه البحر جثة هامدة على الشواطئ التركية بعد أن غرق المركب الذي كان من المفروض أن يكون قارب نجاة وليس مركب موت، ركضتم لتصوروه وترسموه وتنعوه وتنظموا الشعر فيه، أين كنتم عندما كان طاغية الشام يبيد الآلاف من إيلان بالبراميل المتفجرة والمواد الكيميائية، لو كنتم صادقون حقاً بمشاعركم، لكنتم حاربتم أنتم ورؤساء بلادكم من أجل أن يكون لإيلان وأقرانه وطناً يعيشون فيه، ولم يكن إيلان ليهرب ويرمى على شاطئ البحر ملاكاً شهيداً شاهداً على نفاقكم وكذبكم وتمثيلكم.

سبقته ألكسندرا، عروس الثورة إبنة الثلاثة سنوات التي ذهبت ضحيةً لأسوأ إهمال عرفه التاريخ بأسره، تلك الملاك البريء التي كانت تضج بالحياة والفرح والأحلام، والتي إستُشهدت نتيجة جراحها في أخطر إنفجارٍ كاد أن يُزيل بيروت عن الخارطة بسبب فساد رؤساء وحكومات وأحزاب متعاقبين على السلطة، لم يتحمل جسدها الجروح التي أصيبت بها يوم اهتزت بيروت ولبنان بانفجار المرفأ فاستسلمت واختارت الرحيل مع رتل الشهداء الذين سقطوا، استسلمت لتهرب من بطش وفساد المسؤولون وأحزابهم وطائفيتهم التي لا تمت لا للدين وللسلام بصلة.

وها هو اليوم ريان قد انضم للكثير من الملائكة الذين سبقوه واستشهدوا نتيجة تواطئكم وضعفكم وطمعكم وهوانكم وذلكم وجشعكم، اختار البئر ليهوي به جسداً ويصعد منه روحاً شهيدةً أطهر منكم ومن ملوككم ورؤسائكم وسلاطينكم، كان بوسعه أن يخرج حياً لتتاجروا بألمه ووجعه ومصابه ولكن فضل الرحيل عنكم لينضم لأصدقائه شهداء غدركم وإهمالكم وبطشكم وجبروتكم وقلة إنسانيتكم.

انتهت قصة ريان وأصبحت في أرشيف القنوات والنعوات ومنصات التواصل الإجتماعي، وأنتم أيها الملوك والمسؤولون والفنانون والمشاهير ستعودون لحياتكم وكأن شيئاً لم يكن دون أدنى تغيير، ستعتبرونه كمن سبقوه مجرد أضرار جانبية وفرصة كسبتم بها ود الرأي العام بتعاطفكم معه لا أكثر، إلى أن يأتي ريان جديد أو ألكسندرا أو محمد أو إيلان!

مصطفى عبيد

اسرة التحرير ، ناشط سياسي وإجتماعي، كاتب في عدة مواقع الكترونية، مهتم بالصحافة الإستقصائية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى