مقالات خاصة

كوابِح ثورة 17 تشرين العقليّة

بقلم وليد المحب

تراجَعَ زخم ثورة 17 تشرين لأسباب عديدة، مِن بينها كوابح عقلية سيطرت على عقول الثوار أولاً، ثمّ انعكس ذلك على عقول أبناء الشريحة المُتَرَدِّدَة وهي الأكبر حَجماً، والتي يشكّل انخراطها في الثورة شرطاً ضروريّاً لنجاحها.
لقد تَجَسَّدَ الشعور الوطني اللبناني بأجمل حُلَلِه عقب اندلاع ثورة 17 تشرين، ورأينا حينها مظاهِرَ عبّرت عن تألّق الثورة على نحوٍ يُنبئُ باقتراب تحقيق هدفها الأساس، وهو إحلال وطن الإنسان محلّ مزرعة الطوائف.
نَذكُرُ مِن مظاهر تألّق الثورة، على سبيل المِثال:
السلسلة البشريّة التي امتدّت على ساحل لبنان مِن شماله إلى جنوبه.
مسيرة الأمّهات حامِلات الورود بين الشياح وعين الرمانة.
امتناع الزعماء عن التجوّل حتى أن بعضهم أبحر بالزورق لينتقِل إلى بيروت.
قبل الكلام عن الكوابح العقلية، مِن المفيد تبيان أهمية التفكير، الإبداع، الخيال والحُلم. ذلك أنّ مَناطُ كلّ ذلك هو العقل.
الخَيال أهمّ مِنَ العِلم (ألبِرت آينشتاين)
إنّ الصورة التي تشكَّلَت عَشيّة الثورة في خيال شابّاتنا وشبّاننا عن لبنان الذي يريدون، هي ذاتها صورة لبنان الذي يتمنّاه كلّ مواطِن عاقلٍ ونزيه. فقد أيقن ثوّار 17 تشرين أنّ التغيير السياسي في لبنان لن يحصل دون ثورةٍ تُحَوِّلُ تلك الصورة الخيالية الرائعة إلى واقعٍ مُعاش.
بتحفيز مِن الخَيال، اندفَعَت الجُموع فجر 17 تشرين 2019 وسادَ الحَماس، فكانت المُواجهة بين عالَمَي الإبداع والاتِّباع، الأوّل يسوقه خيالٌ إيجابيٌّ يؤجِّجُه العَقل، أمّا الثاني فهو غارِقٌ بِعبادة الزعيم النابعة مِن الغريزة.
بِفِطرَتِهِم السليمة، أدرك أبناؤنا الثائرات والثوّار أنّ المسرح يخيفُ السلطة ويُزَعزِع أركانها، فبادروا إلى كتابة نصوص مسرحيّة وابتكار خشبات، وسيميائيّات عبّرت عن وعي معرفيّ، بِمّا تيسَّر لهم مِن أدوات. فجاء ردّ السلطة سريعاً بإحراق تلك المِنَصَّات، وكأنّ لسان حال الطغمة الحاكمة يقول: “لقد اعتدتُ العتمةَ وخُمولُ الأذهان، وأكثر ما يخيفني نور عقول أبناء الجيل الجديد”.
غالباً ما يتّخذ نور العقل مِن الفنّ منفذاً، لذلك نجد السلطات القمعية تسارع إلى استِعداء الفنّ. وقد فعلتها السلطة اللبنانية مِراراً عبر تاريخها، مرّةً مع مسرحية “مَجدَلون” لهنري حاماتي ونضال الأشقر في أواخر الستينات، ومرّةً مع مسرحية “آخ يا بلدنا” لِحَسَن علاء الدين وآمال العريس في مطلع السبعينات.
هو ذاته أسلوب السلطة القَمعي، حتى أنه تطوّر نحو الأسوأ سنة 2019 حيث قامت زبانية السلطة بحرق وتحطيم مَسرَحاً شبابياً، أقامه اليافِعون المُبدعون الحالِمون بفِلسِ الأرملة، بين ساحتي الشهداء ورياض الصلح. وبنتيجة تلك الهمجية رسّخت السلطة التخلف والحِقد، وحجبت الثقافة والفن والإبداع، بهدف إعاقة التغيير السياسي.
على الحلم أن يُرشِدَ الحالمين كما الوَحي (محمود درويش)
لم يكن عبثاً أن نادت ثورة 17 تشرين بوجوب تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحية تشريعية استثنائية تُحَرِّرُ رقبة مجلس الحُكم الانتقالي مِن برلمان سلطة الفساد والإجرام. حينذاك، لَم يجتمع فلاسفة ومفكّرون، ولم يملي أحدٌ على أحدٍ شيئاً، بل هو وَحي الحُلُمِ الذي تجلّى لإرشاد الحالمين.
لكن السياسة كَما الطبيعة تمقُتُ الفَراغ، وإذا نجحت ثورة 17 تشرين بتحطيم ركائز النظام الطائفي، إلا أنّ قطف الثمار كان يحتاج إلى وعي سياسي يُجِلُّ عِلم السياسة ويحترمه، ويضع حدّاً لظاهرة “أبو العُرّيف”.
بموجب ظاهرة “أبو العُرّيف”، أطلق كلّ “ثائر” رؤيته الخاصة للتغيير، وموقفه الخاص مِن الدستور، وتشخيصه الذاتي لأزمة الوطن، وانفرد بِتحليله لمُجرَياتِ الأمور..

ما أبعد العقول العربية عن مراكز الدراسات!
منذ أن تخلّى “الثوار الدراويش سياسيّاً” عن مبادئ الثورة، بدأ الحُلم الواحد الجامع يتحوّل إلى أحلام صغيرة فرديّة أشبه بالأوهام. ومنها:
تخلّت غالبية الثوار عن المطالبة بـ “استرداد المال المنهوب”، فسمحت أطراف السلطة لنفسها بالكلام عن “توزيع الخسائر”.

وكذلك تخلّت غالبية الثوار عن المطالبة بـ “حكومة انتقالية ذات صلاحية تشريعية استثنائية”، فلجأت السُلطة إلى طرح الانتخابات بموجب قانون انتخابي مُعاد التدوير ومفصّل على قياسها.
الأنانية التي مزجت الحاجة إلى التغيير بحبّ الوصول، والجهل السياسي المصحوب بادّعاء المَعرِفة، كلّ ذلك لوّث النفوس والعقول على نحوٍ طاردٍ للوحي.
لقد شكّلت ثورة 17 تشرين حدثاً مِسبارياً وَضَع العقول على المِحَكّ، فاكتشفنا أن الوعي السياسي غائب ليس فقط على مستوى عامّة الشعب، إنّما أيضاً على مستوى مَن يُفتَرَض بهم أن يكونوا نُخَباً. للأسف، لا وجود للنُخَب، وإذا ما صاح صوتُ العقلِ بملاحظةٍ هادفة، قام بإسكاته “النخبويّون” قبل عامّة الشعب.
وهكذا، تلاشَت الصورة الجميلة الجامعة في أذهان غالبية اللبنانيّين، وباتت صَرحاً مِن خيالٍ فهوى، وانتعشت “الأنا” في نفوس غالبية الثوار أكثر فأكثر، وقرّروا دخول الانتخابات كأيتامٍ على مأدبة اللئام، والنتيجة استرجاع السلطة لمشروعيّتها الشعبية بعد أن فقدتها بفعل الثورة.. سُلطة تتهاوى ولا يعينها إلا “ثوّار دراويش”.

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى