مقالات

لبنان ما قبل سعد الحريري ليس كما بعده

كتب سعد الياس في “القدس العربي”: 

قال الرئيس سعد الحريري كلمته ومشى إلى الامارات، تاركاً «تيار المستقبل» في حال من الارباك وراسماً العديد من علامات الاستفهام حول تداعيات تعليق عمله السياسي وعزوفه وتياره عن خوض الانتخابات على حضور ودور الطائفة السنية في لبنان والاخلال بالتوازنات الداخلية والوطنية وأيضاً على مصير الانتخابات المقررة بعد أربعة أشهر.

وقد وضع الحريري الاصبع على الجرح عندما أعرب عن اقتناعه ان «لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ ‏الإيراني والتخبط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة» لكنه أغفل أن التسويات التي عدّدها وسار بها لمنع الحرب الأهلية على حد تعبيره، هي التي ساهمت في تعزيز النفوذ الإيراني واهتراء الدولة على حساب الدويلة، بدءاً بإحتواء تداعيات 7 أيار إلى اتفاق الدوحة إلى زيارة دمشق إلى انتخاب ميشال عون، مسقطاً أيضاً مهادنته حزب الله على الرغم من ثبوت ضلوع الحزب في اغتيال والده الذي بفضل إرثه وبفضل ما اتصف به من قوة سياسية ومالية واجتماعية ومن علاقات عربية ودولية، ورث الحريري الابن زعامة السنّة من دون أن ينجح في إدارة شؤونها.

وعلى الرغم من إعلان الحريري أن بيت الوسط سيبقى مفتوحاً ولن يُقفل، إلا أنه غادر بعد ساعات على تعليق عمله في الحياة السياسية من دون أن يستخدم تعبير انسحاب، خلافاً للتعبير الذي ورد في بيان وزارة الخارجية الفرنسية الذي قلّل من أهمية موقف الحريري، إذ إكتفت الناطقة بإسم الخارجية بالقول «قرار الحريري يعود له ونحترمه ويجب ألا يؤثر ذلك في ضرورة إجراء الانتخابات بشفافية وحيادية».

وبالمقارنة بين ما فعله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدى احتجاز الحريري في المملكة العربية السعودية في تشرين الثاني 2017 وبين عدم الاكتراث لتعليقه العمل السياسي حالياً، يمكن القول إن العلاقة الخاصة التي ربطت بين آل الحريري وفرنسا منذ الرئيس جاك شيراك على حساب العلاقة التاريخية بين الموارنة وفرنسا تعرّضت لاهتزاز كبير، يشبه القطيعة التي باتت تحكم علاقة الحريري الابن بالقيادة السعودية، مع تسجيل غياب مواقف سياسية بارزة من دار الفتوى كما حدث عام 2017 عندما خرج النائب نهاد المشنوق ليقول عن مبايعة بهاء الحريري «نحن لسنا قطيع غنم تنتقل ملكيتها من شخص لآخر…والأمور في لبنان تحصل بالانتخابات وليس بالمبايعات».

ويأتي قرار الحريري في وقت كانت قيادات في قوى 14 آذار سابقاً وعلى رأسها القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وبعض الشخصيات السيادية تعد العدة لاقامة أوسع تحالف انتخابي سياسي في وجه حزب الله تحت شعار رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان، فيما انسحاب الحريري وتياره من السباق الانتخابي يضعف أوراق الفريق السيادي ويقوّي أوراق فريق 8 آذار وعلى رأسه حزب الله الذي كان يخشى من خسارة الأغلبية النيابية في الانتخابات على غرار ما حصل في العراق، وكان يسعى لتطيير الاستحقاق مع حليفه التيار الوطني الحر الذي يحاول اقتناص أي فرصة لإعادة طرح قانون الانتخاب في مجلس النواب من أجل حصر انتخاب المغتربين اللبنانيين في الدائرة الـ 16 بدل تصويتهم لكل النواب في الدوائر الـ15.

وبالنسبة إلى تداعيات خطوة الحريري التي شملت «تيار المستقبل» يمكن إيجازها بما يلي:

صحيح أن لدى الطائفة السنية بيوتات سياسية وتنوّعاً في التمثيل النيابي وستواصل ترشيحاتها إلى الانتخابات إلا أن تمثيل التيار الأزرق العابر للمناطق من عكار إلى طرابلس والضنية وبيروت وصيدا وإقليم الخروب وزحلة والبقاع الغربي وصولاً إلى عرسال، أحدث فراغاً من شأنه أن يؤدي إلى خفض نسبة الاقتراع لدى السنّة اذا لم يتم تدارك الوضع ببديل عن الحريري يؤمن صحة التمثيل ويساعدهم على استيعاب التغيير الذي حصل، ويحول دون شعور مؤيدي التيار بإحباط شبيه بالإحباط الذي شعر به المسيحيون بعد عام 1992 حيث قاطعوا الانتخابات لكنها جرت رغماً عن مقاطعتهم وأوصلت نواباً يفتقرون إلى عدالة وصحة التمثيل.

إن خروج الحريري من الحياة السياسية ترك للوهلة الأولى تأثيره على الحلفاء وأطلق العنان للتكهنات باحتمال تأجيل الانتخابات بذريعة غياب الميثاقية السنية معطوفة على موقف لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي قرأ بعضهم في تغريدته «المختارة حزينة والوطن تيتّم» مقدمة لإعلان عزوفه عن الانتخابات ما يعطي دفعاً لتأجيل الاستحقاق أو التمديد لمجلس النواب، وقد رسم بعضهم تكهنات حول مصير هذه الانتخابات مع همس حول احتمال التمديد لمجلس النواب قبل أن يبادر الزعيم الدرزي ويعلن استمراره في المواجهة السلمية. أما التأثير على الحلفاء فمردّه إلى أن الصوت السنّي موجود في أكثر من دائرة، وغياب كلمة السر من «تيار المستقبل» سيشتّت الصوت السني في اتجاهات متعددة بعدما كانت اللائحة تنزل في صندوقة الاقتراع «زي ما هيي» الأمر الذي من شأنه أن يضعف الحاصل الانتخابي للوائح التي كانت مدعومة من «المستقبل» ويسهّل منافسة لوائح أخرى سواء من قوى 8 آذار أو من قوى 17 تشرين.

إن الزعامة شبه الأحادية التي أتاحت للحريرية السياسية إكتساح معظم المقاعد السنية وبعض المقاعد المسيحية في الدوائر ذات الغالبية السنية كانت ترفد الحلفاء بصوتها المرجّح والحاسم في الاستحقاقات الكبرى سواء في انتخابات رئاسة الجمهورية أو في انتخابات رئاسة مجلس النواب. وإن إنكفاء هذه الزعامة في الوقت الحاضر سيجعل الرئيس نبيه بري المرشح الدائم لرئاسة البرلمان منذ عام 1992 يتهيّب الموقف. فالرئيس بري يستند في العادة إلى 27 صوتاً شيعياً وما يوازيها من الأصوات السنية بفضل علاقته القديمة ببيت الحريري ونحو 8 أصوات درزية إضافة إلى أصوات حليفه رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية يُضاف إليها أصوات «تكتل لبنان القوي». وإذا استمر الخلاف بين بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ولم تُعقَد صفقة بين الطرفين فإن الرئيس بري سيفتقد إلى الأصوات المسيحية الموزعة بين التيار البرتقالي وحزب القوات اللبنانية وقوى أخرى، كما سيفتقد إلى الأصوات السنية التي كان يؤمنها «تيار المستقبل» ما يطرح علامة استفهام حول ما سيتم في انتخابات رئاسة المجلس وتالياً في انتخابات رئاسة الجمهورية حيث كان رئيس «المردة» سليمان فرنجية يمنّي النفس بأصوات الحريري. وإذا اختلطت الأوراق في موضوع هذه الانتخابات، قد يؤدي ذلك إلى تغيير في رموز الطبقة السياسية وإلى حدوث تغييرات كبيرة.

من وحي تلك السيناريوهات ثمة سؤال طرَح حول إذا كان لقرار الحريري مفاعيل آنية تتصل بتعليق نواب كتلته مشاركتهم أيضاً في الحياة السياسية ولاسيما في جلسات مجلس النواب ولجانه. وما عزّز السؤال هو أن الرئيس بري الذي كان حدّد موعداً لجلسة مشتركة للجان يوم الأربعاء الفائت عاد وأرجأها إلى يوم غد الاثنين، حيث ستتضح الصورة حول نشاط نواب «المستقبل» وإذا كانوا سيقاطعون العمل النيابي ربطاً بموقف الحريري علماً أن كتلته ممثلة في هيئة مكتب المجلس وترأس 3 لجان نيابية كما أنها ممثلة بعضو في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. غير أن عضو «كتلة المستقبل» النائب محمد الحجار أبلغ «القدس العربي» أنه «لا توجد أي توجيهات من قبل الرئيس الحريري لا بتعليق عملنا في اللجان ولا بالاستقالة من المجلس».

ثمة سؤال طرحه كثيرون «من سيرث تيار المستقبل؟» وإذا كانت العمّة بهية الحريري ستلتزم بقرار الشيخ سعد فما هو دور الرئيس فؤاد السنيورة الذي شكّل رأس حربة في المواجهة من داخل السرايا الحكومية المحاصرة لعدم تمكين فريق حزب الله والتيار الوطني الحر من تنفيذ الانقلاب. وكانت لافتة مشاركة السنيورة إلى جانب الرئيس نجيب ميقاتي ومفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في صلاة الجمعة التي أعقبت تأكيد ميقاتي أنه لن تكون هناك مقاطعة سنية للانتخابات. وجاءت اطلالة السنيورة بعد موقف له قبل يومين بدا معاكساً لموقف الحريري وداعياً إلى «توحيد القوى السيادية لتتمكّن من خوض المعركة سلمياً في مواجهة حزب الله واغتنام فرصة الانتخابات لاستعادة التوازن وتحرير الدولة وقرارها» وذلك بعدما كان غرّد السنيورة متوجهاً للحريري «معك رغماً عن قرارك ومعك رغماً عنهم».

إن إعلان الشيخ بهاء الحريري وهو الشقيق الأكبر لسعد الحريري أنه سيستكمل مسيرة والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وقوله «إبن الشهيد ما بيترك لبنان وسأكون قريباً بينكم» جاء حاسماً لجهة إكمال مسيرة الحريرية السياسية تحت عنوان «خوض معركة استرداد الوطن واسترداد سيادته من محتليها» يؤشر إلى حصوله على ضوء أخضر سعودي علماً أن بهاء الحريري كان أتمّ الاستعدادات لخوض العملية الانتخابية من خلال حركة «سوا للبنان» ومن خلال شبكة إعلامية استقطبت العديد من الأسماء الإعلامية للعمل في «صوت بيروت انترناسيونال» التي افتتحت مكاتب جديدة لها في بلدة المنصورية شرق بيروت. ويمكن لبهاء الحريري التعاون مع شخصيات نمت في كنف الحريرية السياسية ولها نفس الخطاب المناهض لحزب الله وعلى رأسها اللواء أشرف ريفي في طرابلس. في وقت هناك نواب حاليون في «كتلة المستقبل» لهم حضورهم وحيثيتهم الشعبية في مناطقهم بغض النظر عن التيار الأزرق وفي طليعتهم النائب عاصم عراجي في البقاع الأوسط والنائب سامي فتفت نجل النائب السابق أحمد فتفت الذي يرأس حالياً المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني والنائب محمد الحجار في الشوف ويمكن لهؤلاء التعاون مع النجل الأكبر للحريري.

ليس صحيحاً أن القوات اللبنانية سعت لوراثة «تيار المستقبل» على الرغم من شعور مناصرين للتيار أن خطاب رئيس القوات سمير جعجع يعبّر عن توجهاتهم وأن رئيس القوات قادر على مواجهة حزب الله كما حصل في الطيونة. وإذا كان صهر العهد جبران باسيل سعى بعد فوات الأوان إلى مغازلة سعد الحريري واتهام القوات بالغدر بالحريري متناسياً الإطاحة بحكومته من الرابية وقطع بطاقة سفر One Way Ticket له ثم منعه من تأليف حكومته بعد التكليف، محاولاً الايقاع بين «المستقبل» والقوات، فإن أوساط معراب تستغرب محاولة حرف الأنظار عما قاله الحريري عن النفوذ الإيراني وإهتراء الدولة، وتشير إلى أن لا أحد يستطيع وراثة «تيار المستقبل» من خارج البيئة السنية، مميّزة بين الخطاب العابر للطوائف الذي يستقطب مؤيدين من طوائف أخرى وبين مصادرة تمثيل طوائف بذريعة أن هذه القوى هي عابرة للطوائف.

يبقى أن موعد 14 شباط وهو ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ستحمل دلالات هذه السنة من خلال كيفية إحيائها، مع توقّع أن تكون هذه الذكرى مناسبة ليطلق بهاء الحريري مشروعه السياسي ويعلن انخراطه في العمل الوطني انطلاقاً من الالتزام بمشروع الوالد متحرراً من الأعباء المالية والأزمات السياسية والتسويات مع الثنائي الشيعي والقطيعة في العلاقة مع المملكة العربية السعودية التي كبّلت شقيقه، في وقت قد يرى بعضهم في بيئة حزب الله أن بديل سعد الحريري هو مشروع فتنة داخلية يترافق مع ضغوط عربية ودولية من خلال استحضار شعارات نزع سلاح الحزب وتطبيق القرار 1559.

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى