البحث عن الأمل المفقود!
كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
عبثاً بات لبنان يبحث عن نافذة أمل. مبادرة الرئيس نبيه بري ما زالت قائمة ولكنها محاصرة منذ انطلاقتها بألغام الطموحات الفئوية التي تُقاد من دوائر القصر الجمهوري إلى مكاتب ميرنا الشالوحي، ما يجعل الأيام القليلة المقبلة حاسمة، سواء لجهة البحث عن كوّة يتحقق من خلالها اختراق جدار التعنت، أو الذهاب إلى السيناريوهات المفتوحة على أكثر من احتمال.
ما سبق يؤكّده أنّ الكل بات يتعامل عملياً مع الواقع الحالي على أنّ احتمالات أن تبصر «حكومة الإنقاذ» النور باتت عند حافة الصفر، وهو ما تبدّى بشكل لا يحمل أي التباس في ما خرجت به جلسة مجلس النواب التي خُصّصت لمناقشة رسالة الرئيس ميشال عون، وما تخللته من ردّ ناري من قِبل سعد الحريري بمضامين تشكّك في الشرعية الدستورية لرئيس الجمهورية.
بهذا المعنى، فإنّ ما تبقّى من مساحة للمبادرة المطروحة من قِبل الرئيس بري، وبرغم الهوامش الضئيلة التي ما زالت تسمح لها بالاستمرار، تكاد تشكّل الفرصة الأخيرة التي ينتظر اللبنانيون وحياً ينعم به الله على المعطّلين لتلقفها، طالما أنّها المبادرة الوحيدة المتاحة، بعد أشهر من المراوحة العبثية بين طريق الإنقاذ والطريق إلى جهنم.
حتى الآن، لا شيء يبعث على التفاؤل بشأن تخطّي العقبات. الكل متمترس في خندقه السياسي، دافعاً بملايين اللبنانيين، ومعهم النازحون السوريون واللاجئون الفلسطينيون، في أتون الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية التي تُقارب أيضاً باستخفاف هائل، من شأنه أن يفجّر برميل البارود في أية لحظة، بدليل ما حدث في نهاية الاسبوع المنصرم، حين أدّت مهزلة التعامل مع قرار مجلس الشورى الدولة إلى تهافت الناس على سحب ما أمكن من ودائعهم المحجوزة، على أحد أسعار الصرف الوهمية المعتمدة من قِبل الحاكم بأمر المصارف، ناهيك عن الهاجس اليومي الذي يعيشه الناس فعلاً في قوتهم اليومي ودوائهم، والكوابيس اليومية التي تلاحقهم في طوابير الانتظار أمام محطات الوقود، وفي نشرات الأخبار التي تبشرهم يوماً بعد آخر بعتمة شاملة، لن يسلم منها لا هاتف ولا خدمة انترنت ولا أية خدمة حكومية – أو على الأقل ما تبقّى من خدمات.
الكارثة الكبرى، أنّ الأزمة التي يعيشها لبنان لا يمكن لأحد أي يغسل يده منها:
أولاً، الطبقة الحاكمة التي تمعن في تعطيل أيّة فرص لتشكيل حكومة انقاذية، من شأنها أن تنتشل البلاد والعباد، ولو جزئياً، من الرمال المتحركة التي غرقوا فيها منذ سنتين، وقد لامست أنفهم، قبل أن تقطع عنهم ما تبقّى من هواء.
ثانياً، أهل الحراك الشعبي أو من يُسمّون «جماعة الثورة»، الذين أوقعوا أنفسهم منذ تلاشي هبّة السابع عشر من تشرين الأول 2019، أسرى لعبة سياسية، يعلمون علم اليقين أنّهم «سيخرجون من مولدها من حمّص»، وأنّهم سيصبحون، مهما كابروا وعاندوا، مجرّد حطب في وقودها.
وثالثاً، وهنا الأهم، الطبقات المحكومة نفسها، التي يكاد خروجها الكبير يقتصر على التهافت على ما أمكن الحصول عليه من ماكينات الصرف الآلي أو متاجر المواد الاستهلاكية أو محطات الوقود، بدلاً من أن يكون خروجاً على الطبقة الحاكمة التي أمعنت في إذلالهم.
الخطير في الأمر، أنّ كل هذه الفئات المشار إليها، كانت في لحظة ما، قبل سنوات، أكثر تقبلاً لاحتمالات التسوية، التي ظن كثيرون أنّ المعجزة اللبنانية قادرة على جعلها اكسير حياة لنظام منتهي الصلاحية منذ فترة طويلة. وأما اليوم، فلا يبدو أنّ أية تسوية ممكنة، بدليل أنّ التعطيل بات عنواناً لكل شيء، وهو ما يجعل فرص المبادرات الحكومية، أياً كان مصدرها داخلياً وخارجياً، محكومة مسبقاً بالفشل.
ما الحل اذاً؟
إذا ما قارب المرء الواقع بأقصى درجة من الواقعية، لأجاب: «لا حل»…
يعني ذلك، أنّ البلد ماضٍ نحو مغامرات متعدّدة الأشكال، يؤذن لها المعطّلون أنفسهم، الذين يوهمون أنفسهم، قبل غيرهم، بأنّ سيناريو الانتخابات البرلمانية المبكرة على سبيل المثال، هو الحل، في حين أنّ التجربة السابقة والواقع المعاش يوحيان بعكس ذلك. فالانتخابات التي باتت عنوان الشعارات الرنانة في مرحلة الفشل الحكومي، لن تكون نتيجتها سوى تغيير مجهري في موازين القوى، ما يعني أنّ الانتخابات نفسها ستعيد تجديد الأزمة إلى ما لا نهاية، وتكون البلاد قد استنزفت مزيداً من الوقت والمال، وقد مضت بسرعة مضاعفة نحو لحظة الارتطام الكبرى.
الكارثة أنّ هذه المغامرات بات يتعامل معها البعض باعتبارها قدراً محتوماً على اللبنانيين، بدليل ما يتردّد عن وجود مبادرة فرنسية جديدة عنوانها حكومة انتخابات مبكرة، في وقت تبلغ فيه الطبقة السياسية ذروة انحطاطها على النحو الذي يجعل آمال هذه القوة أو تلك، منصبة على سبل الاستثمار انتخابياً في جوع الناس، طالما أنّ المئة وخمسين ألف ليرة التي كانت تشتري بها صوت الناخب باتت تساوي عشرة دولارات، ما يجعل الانتخابات بالنسبة إلى هؤلاء تجارة رابحة في أزمنة الأزمة!
كل ذلك يثير مجموعة أسئلة لا شك أنّها باتت تشكّل هاجس ما تبقّى من عقلانيين في هذا البلد: هل كفر المعطّلون بالتعايش السلمي الذي كفل استمرارية النظام الحالي برغم انتهاء صلاحيته، فاختاروا بالفعل الدفع بالبلاد نحو الخراب الكبير؟ وهل الفوضى الشاملة باتت الممر الإلزامي لأية تسوية، سواء كانت تسوية حكومية أو تسوية نظام؟
قد لا يجد المرء إجابة عن هذه التساؤلات، طالما أنّ الرهان ما زال قائماً على بصيص نورٍ من مبادرة هنا أو هناك… ومع ذلك، فإنّ الوقت لن يطول قبل أن تصبح تلك الهواجس قوتاً يومياً لكل لبناني!