مقالات خاصة

عندما فقد الحريري عناصر بقائه السياسي

كتب أحمد أيوبي لقلم سياسي

كان طبيعياً أن نرى مشهد سعد الحريري معلناً الانسحاب من المعركة الانتخابية ومعلقاً نشاطه السياسي، فهو يدرك أنّه فقد مبرّر وجوده السياسي بعد أن تخلّى عن عناصر قوته وعن أساس ما جاء من أجله إلى السياسة، حيث كان يفترض به أن يكمل ما كان قد بدأ به رفيق الحريري في السياسة والإنماء والإعمار، من دون مقارنة بين الأب وابنه، الذي ورث مجداً عظيماً بالشهادة، وعلاقات دولية لا تُضاهى، وأموالاً تأتي إليه من كل حدبٍ وصوب، حتى يكون قوياً ببني قومه، وحتى يُنشئ في مناطقهم مؤسسات الصمود الاجتماعي والسياسي.

حكم العجز والفشل

حَكَمَ الحريري سنواتٍ عدة، عجز فيها عن تحقيق أيّ إنجاز، لا في السياسة ولا في الإنماء، وتحوّل حاجةً لخصومه بعد أن قاموا بتدجينه سياسياً، إلى حدّ أنّه بات يعبّر عكس ما تقتضيه مصلحة من يمثلهم وعموم المصلحة الوطنية، وهذا ما يريد المدافعون باسمه أن يتجاهلوه ليصوروا لنا أنّ كان بطلاً حمى السنة والبلد من الإبادة في حرب أهلية قال هؤلاء إنها كانت ستندلع لأنّه رفض طلب السعودية مواجهة “حزب الله” في نظرية لا توحي إلاّ بالخمول الفكري والسياسي.

لهذا كانت همروجة الخروج بائسة وضعيفة، فالذين نزلوا إلى الشارع كانوا مجموعات التقطتهم منظومة أحمد الحريري الشوارعية، وزجّت بهم تحت الأمطار مقابل مبالغ مالية للأصحاب الباصات والسيارات، فلم يكن بينهم وجه معروف بالانتساب أو الانتماء إلى تيار المستقبل، ثمّ أين كان النواب والمنسقون من التحشيد للناس ولماذا لم يقفوا مع “جمهورهم” للاستماع إلى خطاب “الزعيم” من وراء الأسلاك الشائكة..؟!

كان الحريري قد انتهى سياسياً عندما قرّر أنه انهزم ولم يعد له من سبيل للبقاء على قيد الحياة السياسية إلاّ من خلال التنازل عن مفاعيل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال والده الشهيد رفيق الحريري، والدخول في ذمة “حزب الله” وتسليم الحكم من رأسه إلى كعبه لمنظومة الممانعة، واضعاً نفسه في دائرة الرئيس نبيه بري.

بين الحريري والحكيم

ولإعطاء النقاش الفرصة الجدلية:لنفرض أنّ القوات اللبنانية وجميع من يلقي سعد الحريري باللاّئمة عليهم في فشله، هم الذين خرججوا من الحياة السياسية أو انسحبوا من المعركة الانتخابية، هل كان حال سعد الحريري مختلفاً عن حاله اليوم؟ وهل كان سينجح حيث سبق أن أخفق؟إنّ عوامل فشل سعد الحريري ذاتية “منه وفيه”، أكثر منها خارجية، فغيره استطاع التماسك رغم حدة الصراعات، ومقارنة بين تيار المستقبل المفكّك والمنخور بالفساد، وبين القوات اللبنانية، المتماسكة والصلبة، يعطي فكرة عن زعيمين، أحدهما لعب دور “دي.دجيه” وأطلق موضة السيلفي، وبين آخر سُجن أحد عشر عاماً وخرج أقوى مما كان من قبل، وتمكّن من بناء حزب يخوض الاستحقاقات بجدارة، وحوّل المناطق التي يمثّلها إلى واحات تنمية وحافظ على جمهوره، ولم يتركه في الأزمات، والأهمّ أنّ سمير جعجع قرّر البقاء في لبنان رغم وجود خطر دائم على حياته، بينما أدمن الحريري هجر جمهوره والأغلب الأعم وجوده خارج البلد.

المتنازل الأكبر

ما قدّمه سعد الحريري لم يكن مشروعاً سياسياً ولا فكرياً ولا حتى تنموياً، كلّ ما فعله أنّه أدمن القفز بين التنازلات حتى لم يعد لديه شيء يتنازل عنه، فلم يعد حاجة لأحد، إلاّ لمن يراه المتنازِل النموذجي في قوى 8 آذار النائحة على فقده والباكية على غيابه..كيف فقد الحريري عناصر بقائه السياسي؟كلّ حزب سياسي يحتاج أربعة عناصر للنجاح:

ــ العنصر الأول: مشروعٌ سياسي اقتصادي تنموي شامل: وهذا ما لم يكن موجوداً مع سعد الحريري، الذي تحالف مع مافيا المال والسلاح وسلّم الأمر لها فارتفع منسوب الفساد حتى فاض به البلد، وسيطر السلاح حتى دمّر كيان الدولة وسحقها، وأتى على علاقات لبنان الخارجية.كانت حصيلة ما قام به سعد الحريري كارثية بعد أن تسبّب في هدر ملايين الدولارات التي خصّصتها دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لإقامة مئات المشاريع التي بقيت حبراً على ورق، وطارت الأموال وبقيت مناطق السنة جرداء قاحلة من الإنماء.

ــ العنصر الثاني: هوية سياسية وطنية وخطاب واضح يستقطب الرأي العام على أساسه.

وواقع الحال أنّ تيار المستقبل تحوّل كائناً سياسياً مائعاً بلا هوية وفقد طعمه ولونه، وبهذا فإنّه خسر القدرة على التأثير في الجمهور، فضلاً عن انفصاله عن النخب منذ سنوات.

ــ العنصر الثالث: هو التمويل. وبعد أن كان الحريري يستفيد من الثقة السعودية والخليجية به لتأمين التمويل لمشاريع مفترضة ولمؤسساته السياسية والإعلامية، أدّت سياسات الحريري الفاشلة إلى تفكيك وسقوط أمبراطورية “سعودي أوجيه” وتشريد مئات العائلات وضياع حقوق العاملين فيها وفي بقية المؤسسات، إلى أن غادر الحريري إلى الإمارات باحثاً عن رزقه، مدركاً استحالة خوض المعركة الانتخابية.

العنصر الرابع: هو العلاقات الخارجية. لطالما استند سعد الحريري إلى علاقاته الخارجية الواسعة والمتشعبة والتي كان له دور أساس في تمكنه من استقطاب الاهتمام الخارجي نحو لبنان، وبالتالي استطاع أن يكمل سلسلة المؤتمرات من أجل لبنان، رغم ما كان يحصل في أموالها من هدر وسرقات وفساد تقاسمته أحزاب السلطة الفاسدة.بعد الصفقة الرئاسية، وبعد انكشاف إرادة الحريري بأن يكون أحد أركان سلطة “حزب الله” حتى بعد صدور قرار المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كان واضحاً أنّ الزعيم الأزرق فقد تدريجياً كلّ علاقاته الدولية والعربية، ولم يبق له منها سوى الإمارات التي تؤويه اقتصادياً، وترفض أن يمارس النشاط السياسي من أراضيها.

خسر سعد الحريري عناصر البقاء السياسي فحمل عوامل فشله ذاتياً.

ظاهرة الشتامين

إنّ هؤلاء الذين يشتمون صعوداً ونزولاً، يريدون الإفادة من مواقعهم التنظيمية والسياسية للمتاجرة مرة جديدة على ظهر سعد الحريري في الانتخابات المقبلة، فهم إمّا مستشارون يريدون تأمين صفقات انتخابية، أو نواب يطلبون رضى “حزب الله” عبر الهجوم على القوات اللبنانية.من دمّر تجربة الحريري؟لم تدمر القوات اللبنانية تجربة الحريري ولم يسقطها حتى تخلي وليد جنبلاط، ولا انقلاب صديقه جبران، فهذه مواجهات طبيعية في السياسة اللبنانية.

إنّ الذي أسقط هذه التحربة هو سعد الحريري نفسه الذي لم يُتعب نفسه ببناء هيكل مؤسساتي حزبي، ولا بالحفاظ على وجود أهل السنة في الدولة، ولا بالتحرّك لتأمين الإنماء العادل، بل ذهب مذهب المتهاونين، فزيّنَ الهزيمة وفـَلْسَفَ الاستسلام، وتباهى بنزع الحق من أهله لمنحه إلى خصومه، واعتنق ظلم ذوي القربى، ثمّ راح يرمي المسؤوليات بالفشل على الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى