مقالات

لبنان يَفقد توازنه الإجتماعي

جاء في “الراي الكويتية”:

بعد 25 عاماً أمضاها مديراً لإحدى المؤسسات التجارية، تقاضى تعويضاته إثر قفل المؤسسة أبوابها بسبب تردي الوضع الاقتصادي. كان راتبه الشهري قيمته، قبل انهيار سعر الليرة، يوازي ثلاثة آلاف دولار.

لكن بحسب القانون اللبناني فإن تعويضاته تُحتسب على الليرة اللبنانية.

فجاءت تعويضاته (عن الـ 25 عاماً) قياساً إلى سعر الصرف، لا تتجاوز ثلاثة آلاف دولار، هي كل ما تبقى له، بعدما طارت مدخراته بسبب وضع المصارف يدها عليها.

هي حال كل الطبقة الوسطى التي تشكل عادةً ركيزة المجتمع في لبنان وسواه.

هم مديرو مؤسسات وموظفو الفئة الأولى في الدولة اللبنانية، وهم الأساتذة الجامعيون، والأطباء والمهندسون والمحامون الذين كانوا يعيشون في ترف من دون ثراء فاحش.

يتعلم أولادهم في مدارس وجامعات خاصة أو حتى خارج لبنان، يسافرون ويشترون ويأكلون ما هو في متناول أيديهم.

الطبقة الوسطى في لبنان كانت قبل الحرب وبعدها توازي أكثر من نصف اللبنانيين، وساهم أداء المصارف وطبيعة الحياة الاقتصادية في تعزيز أوضاعهم، عبر شراء المنازل والسيارات بالتقسيط، وتعليم أولادهم، وتنظيم رحلات سياحية والعيش في استقرار مالي واجتماعي نسبي وفي ظل معادلة من حدّيْن: لا فقر ولا غنى.

اليوم تَبَدَّلت أحوال هؤلاء، وهم الذين يفترض أن يعيشوا في حال أفضل، بسبب حاجتهم إلى الطمأنينة في عملهم.

ويقول أحد الأطباء ممن ما زالوا يتقاضون تعرفة رمزية بسبب أوضاع مرضاه المتدهورة إنه يكاد يبلغ سن التقاعد.

لكنه لن يجرؤ على ذلك، بسبب عجز مرضاه عن تحمل كلفة التعرفة التي بدأ بعض الأطباء في تحصيلها وتتجاوز مليون ليرة عن المعاينة، وبعضهم باشر تحديدها بالدولار.

بالنسبة إلى زميل له، فإن الأطباء عرفوا سابقاً حياةً رغيدةً، وإجمالاً لا يتقيدون بتعرفة نقابة الأطباء، كما يحصل في فرنسا مثلاً. وكانت تعرفتهم تُحدد قياساً إلى الدولار، وكان اللبنانيون يدفعون من دون أي تردد، لأنهم يحصلون في المقابل على معاملة ومعاينة لائقة وذات مستوى علمي مشهود له.

اليوم لا يستطيع اللبنانيون تحمل كلفة العلاج، ولا كلفة زيارة الطبيب، والطبيب بدوره يتراجع مدخوله، والأطباء الجدد منهم يتعرضون إلى هذا الضغط الذي يجعلهم في حيرة بين الهجرة أو البقاء في لبنان.

ويقول أحد أطباء الأسنان إن عدد مرضاه انخفض في المدة الأخيرة بعدما ازدادت كلفة علاج الأسنان نتيجة ارتفاع سعر المواد المستخدمة وهي مستوردة وتُدفع بالدولار.

ويضيف أنه بدوره دخل دوامة الانهيار، لأن مدخوله تراجع فيما أولاده ما يزالون في الجامعة.

وحتى تأمينه الصحي أصبح بالدولار وهو مضطر إلى أن يؤمن لشركة التأمين المبلغ بالعملة الأميركية.

إذا كانت الأنظار تتوجه عادة إلى الأطباء كطبقة قائمة بذاتها، والعائلات اللبنانية كانت تفاخر بأن أولادها مهندسون أو أطباء أو محامون، فإن الجميع أصبحوا سواسية في انهيار حالهم الاجتماعية.

إحدى المهندسات اللواتي انتسبت حديثاً إلى النقابة، وتعمل في إحدى الشركات المعروفة في بيروت، تقول إنها كانت تتقاضى راتبها بالليرة اللبنانية وكان من الرواتب التي تُعد عالية.

لكنه حالياً يكاد ألا يكفي لدفع قيمة اشتراكها في النقابة والتأمين الصحي.

يشكل التأمين الصحي اليوم بالنسبة إلى غالبية اللبنانيين الهمّ الأساسي، بعدما حددت الشركاتُ قيمة التأمين بالدولار.

وهذا يعني أن أي منتسب مضطر إلى أن يدفع سنوياً بين ألف وألفي دولار على الأقل لتغطية كلفة تأمينه.

والنقابات في غالبيتها اليوم على خلاف مع شركات التأمين بسبب الفروقات وعدم تغطية علاجات المنتسبين إليها.

يقول أحد المهندسين، إنها اضطر إلى دخول المستشفى لكن شركة التأمين لم تغطِ إلا جزءاً من العلاج فيما المستشفى طالبه بدفع خمسة آلاف دولار، ما اضطره إلى الاستدانة لأن أمواله محتجزة في المصرف وكل أعماله متوقفة حالياً، ولا يملك من المبلغ إلا أقل من ربعه.

تتفاوت حكايا الصف الأول من الطبقة الوسطى، بين أساتذة جامعيين وحقوقيين، لكنها تتحوّل تدريجاً رواية واحدة من فصول متعددة.

يقول أحد المحامين إنه في ظل تراجع الوضع الاقتصادي، وتوقف الأعمال القضائية وتعطُّل القضاء ونشاط قصور العدل واضرابات المحامين، توقّفت كل أعماله. مكتبه الذي افتتحه قبيل الاحتجاجات تحوّل منتدى للقاء أصدقاء محامين يتداولون ويتشاورون لكنهم فعلياً لا يعملون في مهنتهم.

بعض المحامين المتدرجين ترك مكاتب المحاماة وانتقل إلى أعمال أخرى، حتى أن أحدهم تقدم لوظيفة في مؤسسة من مؤسسات الإغاثة الدولية كي يقبض راتباً بالدولار، منهياً حُلْم عائلته بأن يكون بكرهم محامياً.

في كل تفاصيل الحياة التي تعوّدت عليها طبقة من المجتمع اللبناني، تغيّرت عاداتٌ كثيرة وانحسرت الحياة إلى حدها الأقصى. مديرُ فرعٍ مصرفي متقاعد حديثاً لا يخلع ثياب النوم، يجلس قبالة التلفزيون ليلاً ونهاراً.

تقول عائلته إنه من الذين لم يعرفوا كيف يستفيد كما بعض المصرفيين، فقبض راتبه التقاعدي وحوّله إلى دولار لكنه إلى الآن لم يستطع أن يتقاضى منه شيئاً.

تغيّرت أحوال عائلته التي تتمحور حول مقاربة وضع رب العائلة الذي بات يعيش على المهدئات (المفقودة)، فيما ابنه المتخرّج من الجامعة حديثاً يفتش عن عمل خارج لبنان.

حين يلتقي أبناء العائلات المنكوبة من المصارف ومن تردي أعمالها، يتحول الكلام عن معاناة آبائهم وأمهاتهم اليومية.

يندر أن يكون والدٌ متقاعد إلا ويكون وصْف حالته مشابهاً لحالات آخرين: ثياب نوم، ثياب رياضية وجلوس أمام التلفزيون بصمت مطبق.

يقول أحد الشبان انه يصعب أن يفهم كيف يمكن أن يستوعب والده فعلياً أن أمواله احتُجزت نهائياً في المصرف وأنه لم يعد قادراً على الإفادة منها كما كانت حاله قبل عامين.

مديرة لكلية جامعية تتعاطى الشأن الاجتماعي تقول إنه قياساً إلى ما تراه من معاناة يومية مع عائلات أكثر فقراً باتت تعتبر أن وضعها الميؤوس منه أفضل حالاً.

تستعدّ الأستاذةُ الجامعية للتقاعد لكنها تنظر إلى مستقبلها دون أن تنجح في تصوُّره إلا على مثال ما تراه يومياً من الذين يقصدون المركز الاجتماعي لتلقي مساعدات وإعانات وأدوية.

لا يتجاوز راتبها الشهري التقاعدي مئتي دولار، فكيف يمكن أن تعيش وتأكل وتؤمن يومياتها ومصروف سيارتها من محروقات وفاتورة المولد الكهربائي، فيما تأمينها الصحي في الجامعة اللبنانية بات لا يكفي لتسديد أي علاج لها بعدما توقفت مستشفيات ومراكز صحية عن التعامل معها.

حالة زملاء لها في جامعات خاصة ليست أفضل حالاً وإن كانت بعض الجامعات تحاول تحسين ظروف أساتذتها بتأمين رواتب جزئية بالدولار.

وأحد الكتّاب اللبنانيين أستاذ متقاعد، عادة يؤمّن توازناً من مدخوله الأدبي وراتبه الوظيفي.

لكن الأمرين اليوم يساويان صفراً بالمعنى الحقيقي.

فكيف يمكن أن يُسَدِّدَ الفواتير الأساسية للكهرباء والمولد والهاتف؟

غالباً ما كانت تشكّل الطبقة الوسطى صمام الأمان الاجتماعي – السياسي، وها هي الآن «تُدفن» في لبنان الذي يَفْقِدُ تُوازُنَه مع اضمحلال هذه الطبقة «مانعة الصواعق» في بلادٍ مفتوحة على أزمات داخلية مُتفجّرة وأهوال خارجية يصعب تَصَوُّر مسارها.

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى