يتذمّر اللبنانيون ثم ينامون حالمين بالتغيير والثورة
كتب هيكل الراعي في “الجمهورية”:
يكثر اللبنانيون في غالبيتهم من التذمّر والشكوى، حتى لتشعر وأنت تستمع إلى «معاناتهم» و»مآسيهم» و»مصائبهم» كأن لبنان يعيش حالة انهيار ودمار وتفكك ومجاعة، أو هو على شفير ذلك. لقد أصبح التذمر من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل واستنتاج العبَر نظراً لانعكاساتها السلبية المدمرة. السؤال الذي يطرح هو: هل الأوضاع سيئة وصعبة وقاسية إلى هذا الحد؟ وإذا كانت فعلاً كذلك فلماذا يقبل كثيرون بها ولا يقومون بأي تحرك منظّم لمواجهتها؟
لا يلتقي لبنانيان إلا وتكون الشكوى ثالثهما. يبدأ الحديث عن الطبقة السياسية وسلوكياتها وفسادها وتحكّمها برقاب الشعب الذي أعاد ويعيد انتخابها والتجديد لها، مروراً بالأزمة السياسية والاقتصادية التي يعيشها لبنان وانعكاساتها المالية والمعيشية، وصولاً إلى الغلاء والفساد وانهيار منظومة القيم والأخلاق التي تضبط حركة المجتمع.
لا يهمل اللبنانيون في شكاويهم انهيار سعر صرف الليرة ووصوله إلى أرقام خيالية تجاه الدولار والعملات الأجنبية، وكذلك أسعار السلع والخدمات التي قضَت على الرواتب والأجور، التي أصبحت لا تكفي لأيام من الشهر، إضافة إلى ارتفاع الأقساط المدرسية والجامعية وغياب التغطية الصحية وفقدان الأدوية وموت المرضى على أبواب المستشفيات والتهديد بالعتمة الشاملة… ولكن المفارقة هي أنك عندما تستمع إليهم تشعر وكأنهم يتحدثون عن دولة أخرى أو عن مجتمع آخر وليس عن دولتهم ومجتمعهم الذي يعيشون فيه. ذلك لأن الشكوى تنتهي بالتوصيف وبالمقولة الشهيرة «فالج لا تعالج»، وليس بالتكاتف والتضامن بين مواطنين مسؤولين واعين يسعون الى إحداث التغيير المطلوب.
سياسيون ملائكة
نواب طائفتهم ووزراؤها وقياداتها الحزبية والدينية هم ملائكة أو قديسون، أما المسؤولون الآخرون فهم سبب المشكلات والأزمات والخراب وكل الشرور. يشتمون المسؤولين والوزراء والأحزاب وقياداتها ليلاً ونهاراً ثم يتسابقون للدفاع عنهم وعنها وتَبنّي شعاراتها. حتى أولئك الذين غادروا لبنان بفضل نزاعات هذه الأحزاب وحروبها و»إنجازاتها» التهجيرية تراهم يحملون أعلامها وشاراتها في الغربة ويتباهون بانتمائهم إليها.
تعيش غالبية اللبنانيين حالة انفصام بين التذمر المتكرر من سوء الحال وبين الادعاء والتباهي والتفاخر بترتيب الأمور. فالذي يوجّه أقسى الانتقادات للسياسيين تجده في صالوناتهم يمجّد كل كلمة ينطقون بها، والذي يشكو من توقف الأعمال وتراجع المداخيل تراه يعيش حالة ترف وبذخ. والذي يطالب بمحاربة الفساد يتباهى بأنه أنجز معاملته في دائرة رسمية ودفع رسوماً أقل بفضل إكرامية أو رشوة قدّمها لموظف. تكريم السارقين للمال العام وتجار المخدرات والفاسدين في الإدارة والأمن والقضاء أصبح موضوع افتخار، أما الموظفون الشرفاء فهم أغبياء لأنهم لم يستفيدوا من وظائفهم. تجارة العلم والشهادات أصبحت رائجة، وتوظيف الدين لتحقيق الأرباح أصبح سلوكاً مقدّراً. الإنفاق على الكماليات والسهرات والمناسبات الاجتماعية وغيرها لا يزال سلوكاً اجتماعياً عند البعض، وليس ضرورياً السؤال عن مصادر الأموال، ورغم ذلك تجد لغة التذمر والشكوى سائدة.
خمس فئات
من خلال المراقبة والدراسة والتحليل يتبيّن أن اللبنانيين ينقسمون اليوم إلى خمس فئات: الفئة الأولى ثرية ولديها كميات من الدولارات والعملات الأجنبية مخبّأة في خزائن المنازل أو موضوعة في حسابات مصرفية خارج لبنان، هذه الفئة لا تزال تعيش حياة بذخ وترف في إنفاقها وفي حياتها اليومية ولم تتأثر بتداعيات الأزمة المالية والمعيشية. والفئة الثانية تتقاضى رواتب بالدولار من خلال عملها في سفارات ومنظمات دولية (حكومية وغير حكومية) تتمركز في لبنان وتهتم بشؤون اللاجئين والنازحين والفقراء، هذه الفئة لم تتأثر بتداعيات الأزمة المالية، ويمكن القول انها استفادت في بعض الأحيان من انخفاض مستوى أسعار بعض السلع، غير المستوردة، والخدمات فحافظت على مستوى معيشتها. والفئة الثالثة تعيش من رواتبها ومداخيلها ومن التحويلات (بالدولار) التي تأتيها كمساعدات من اللبنانيين العاملين في الخارج (قدّرت هذه التحويلات بنحو 7 مليارات دولار عام 2020) هذه الفئة تؤمّن حاجاتها الأساسية وتوازن بدقة بين وارداتها ونفقاتها. والفئة الرابعة المكونة من ذوي المداخيل المتدنية والتي تنتظر الكرتونة الغذائية أو المساعدة النقدية التي تصلها شهرياً من أحزاب وجمعيات ومنظمات لبنانية ودولية لتؤمن حاجاتها الأساسية. والفئة الخامسة تتمركز في شكل أساسي في المناطق الريفية، وهي التي لا تحويلات أو كرتونة غذائية تصلها ولكنها تتدبر أمورها من خلال التضامن العائلي والاجتماعي في انتظار الفرج.
المساعدات المالية والعينية التي تصل إلى اللبنانيين تؤدي دوراً مهماً في تخدير وتدجين شعب منهوب ومسروق من العصابة السياسية – المصرفية. وهذا ما يفسّر سكوت 2,8 مليون مودع على سرقة ودائعهم على يد أصحاب المصارف، ويفسّر أيضاً اتخاذ الغالبية الساحقة موقف المتفرج تجاه الخطوات العملية التي اتخذتها جهة قضائية، بغضّ النظر عن قانونيتها، للكشف عن الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج خلال العام الماضي (قدّرها بعض المصادر بـ 9 مليارات من الدولارات). ففي نهاية 2019، كانت نسبة الحسابات المصرفية التي تقلّ عن مليون دولار أميركي تشكل 99 % من الحسابات. أمّا نسبة الحسابات ما بين مليون و100 مليون دولار فهي 1 % فقط، وعدد هذه الحسابات هو 22 ألفاً و506. فلماذا لم نجد في التحركات والتظاهرات التي نظمتها جمعيات تدافع عن حقوق المودعين إلا حفنة صغيرة لا تتجاوز العشرات؟ وأين هم هؤلاء ولماذا لا يتحركون؟
تأمين المصالح
فعندما يتم تدجين شعب عبر الزبائنية السياسية والعصبيات الطائفية وعبر المساعدات المالية والكراتين الغذائية يصبح الاستقرار الأمني، ولو في حده الأدنى، مضموناً. فاللبنانيون خلال تاريخهم لم يثوروا، إلا في ما ندر، على ظلم مستعمر أو محتل أو ظالم أو حتى عصابات تسرقهم. همهم الأساسي كان دائماً ترتيب أمورهم وتأمين مصالحهم تحت جزمة المحتل أو على أبواب الزعيم السارق والناهب مُهتدين بالمثل الشعبي الذي يقول: «يَلّي بياخد أمي بيصير عمي». فقبل سنوات ضجّت وسائل الإعلام بأخبار تراكم النفايات في شوارع العاصمة، وحفلت وسائل التواصل بأقسى وأقذع أنواع التعليقات، وعندما دعت أحزاب وجمعيات إلى تظاهرة احتجاجية بقيت الأغلبية الساحقة من المواطنين في منازلهم حيث قاموا بتشجيع المتظاهرين بالتصفيق من الشرفات. وهكذا بالنسبة إلى أغلب المشاكل المعيشية الحياتية التي يواجهها اللبنانيون والتي لا نحتاج لتعدادها. فأين هم الذين تظاهروا للمطالبة بسلسلة جديدة للرواتب والأجور، وحصلوا عليها، لماذا لا يتظاهرون بعد أن انهارت القدرة الشرائية لهذه الرواتب؟ لماذا يسكتون؟ وأين هو الاتحاد العمالي العام ولماذا لا يتحرك ومن يمسك بقراره؟ والذين نزلوا إلى الساحات وقطعوا الطرق و»ثاروا» اعتراضاً على ضريبة صغيرة كانت مقترحة على خدمة «الواتساب» لماذا لا يثورون؟ لماذا يرضون بالوقوف في صفوف الذل على أبواب الأفران والمحلات التجارية ومحطات المحروقات؟ وأين هم بعدما طرق الجوع أبواب عائلات كثيرة؟ ولماذا ينام الفقراء وأمعاؤهم خاوية؟
هل هناك حقيقةً أزمات مستعصية تهدد مستقبل لبنان؟ وهل دخلنا فعلاً في ما يسميه البعض الانهيار الشامل أو الارتطام بالهاوية؟ وهل سيحدث انفجار اجتماعي جارِف عندما سيتم رفع الدعم عن السلع الأساسية؟ أم أن التذمّر الذي نشهده هذه الأيام سيبقى لغة سائدة وأحاديث مكررة يجيدها اللبنانيون في الصالونات ولا يترجمونها أفعالاً تغييرية تعيد بناء السلطة؟ ولماذا لا يحاسب اللبنانيون مكونات ورموز الطبقة السياسية التي سرقتهم ونهبتهم وزرعت الظلم والدموع في بيوتهم فيقومون بتغييرها بدل التغنّي بما تفعل الشعوب الأخرى، وانتظار أن تقوم الدول الكبرى بالتغيير السياسي واستعادة الأموال المنهوبة نيابة عنهم؟ يبدو لمن يراقب أنّ الوضع فعلاً على شفير الإنهيار كما تنقل وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، وأنّ أياماً صعبة وغيوماً سوداء مقبلة على لبنان بدأت تباشيرها. فهل سيتعلم اللبنانيون من مآسيهم لصناعة مستقبلهم، أم انهم سيكتفون بتشخيص وتحليل عميقين للأزمات التي يعيشونها ولأسبابها، وبالنوم حالمين بتغييرها. ويبدو أنّ هذا ما يطمئن الفاسدين والسارقين الذين يعرفون أيضاً بعمق تركيبة الشعوب اللبنانية وتشرذمها وحذرها بعضها من بعض وتشتتها، ما يمنعها من التوحد والتضامن والمحاسبة والتغيير.