النظام الجمهوري ووسائل التغيير
بقلم د. وسيم بكراكي
بمناسبة اقتراب موعد تاريخ تأسيس الجمهورية التركية في 29 تشرين الأول القادم جلست مع ابني لنعمل سوياً على تحضير نص تعبيري للحديث عن هذه المناسبة لا يتجاوز صفحتين تتحدث عن أهمية الجمهورية وماذا قدمت هذه الجمهورية للشعب من ميزات.
ليس من عادتي أن أقوم بتدريس أبنائي إلا عندما يكون هناك ما يتطلب التدخل كهذا الموضوع الذي يحتاج إلماماً بشكل جيد باللغة وتاريخ البلد الذي نعيش فيه.
بدأنا بالحديث عن تاريخ تأسيس الجمهورية التركية وقرار إعلانها في مجلس الشعب ثم انتقلنا للحديث عن الفضائل والحسنات التي قدمها هذا النظام الجمهوري للحكم والشعب. وكان من أهم هذه النقاط طبعاً أن النظام الجمهوري يعطي للشعب قرار الحكم واختيار من يمثله من رأس الهرم في هذه الدولة بشخص رئيس الجمهورية وصولاً إلى أعضاء المجلس النيابي والغرف المهنية المختلفة والبلديات…الخ وأن الشعب هو من يقرر وهو من يحاسب فهذا الأمر هو أبرز الحقوق الوطنية التي يتمتع بها كل مواطن في هذه الجمهورية سواء أكان مقيماً أو مهاجراً بدون أي تفرقة أو مزايا لأي مواطن عن الآخر. فالجمهورية هي رمز المساواة بين جميع أبناء هذا الوطن الذي هو وطن الجميع قولاً وعملاً.
تحدثنا عن أن الجمهورية تعني حرية الرأي وحرية التعبير دون خوف من الحاكم. فالحاكم ليس إلا مواطناً عادياً من الشعب نفسه أخذ تفويضاً لمدة زمنية محددة ووضع في مكانه لخدمة هذا الشعب والوطن بأفضل الطرق الممكنة والوسائل المشروعة التي تشرعها القوانين المتبعة.
تحدثنا عن أن الجمهورية هي دولة القانون وأن القانون متساو في مواده مع الجميع ولا يمنح الأفضلية إلا لصاحب الحق فلا سلطان على القانون إلا بسلطان الأدلة والبراهين بعيداً عن أي تدخل خارجي أو ضغوط أمنية ولا قوة فوق القضاء إلا قوة الحق والعدالة ولا مكان لشريعة الغاب عندما تحل شريعة القانون والأنظمة.
تحدثنا عن تفاصيل كثيرة مختلفة عبر الاستعانة بالطبع بالعديد من المقالات والمراجع من صفحات الانترنت التي تتحدث عن الجمهورية وأهميتها وميزات هذه الجمهورية.
ولا اخفي عليكم… شعرت بغصة كبيرة حين تذكرت أيام طفولتي التي كانت في وسط الحرب الأهلية اللبنانية التي حرمت جيلنا من تعلم ماهية الدولة وعلمت جيلنا وما قبله وما بعده لغة القوة ولغة الحزبية والتبعية لسلاطين الحرب وأمراء الدم الذين كانوا ولا زالوا يعيثون في وطننا فساداً وضلالاً ودماء…
كم هي مقارنة متباعدة بين أجيال تنمو على تعلم خصائص الدولة وحقوق المواطنية وواجبات الدولة وحدود كل مؤسسة وكل وظيفة حتى ولو كانت هذه الوظيفة هي لرئيس جمهورية أو وزير أو رجل دين… مثل هذه الأجيال لن تخاف من التعامل مع حقوقها بشكل صحيح، ولن يتردد هذا الجيل بالتعبير عن رأيه ومحاسبة قادة هذه البلاد محاسبة عادلة صحيحة أياً كان منصبه وسلطانه.
الجيل الذي يعلم أن السلطة هي سلطة الشعب لن يركض وراء “زعيم” وهمي صنع نفسه بقوة السلاح وقوة الفتنة والطائفية البائسة التي قسمت بلادنا وانتزعت كل ما يحلم به شعبنا من أمن وأمان وراحة.
لن يكون مع الصعب على جيل تربى على معرفة الحقوق والقوانين أن يضع صوته الانتخابي بمكانه الصحيح ليختار الرجل الصحيح في مكانه الصحيح دون تأثر بما يمليه عليه هذا الزعيم بحجج مختلفة ما بين طائفية ومناطقية وميليشيوية.
بينما نحن اليوم في لبنان ومع اقتراب الاستحقاق الدستوري الذي يقتضي بأن يختار الشعب قادته لدورة انتخابية جديدة، ما زلنا نصدم من واقع شعبنا الذي تشرب الذل والتبعية وحرم من مجرد الأمل بالتغيير أو حتى مجرد التعبير عن الرأي بدون أي وساطة أو خوف أو تبعية.
يهولني ما اسمعه من سلبية يعيشها أهلنا وأحباؤنا وإخوتنا في الوطن. هل يعقل أن مجرد الحلم في التغيير أصبح غير متوفراً في قواميس عقولنا وهل عملية التغيير هي مهمة مستحيلة؟
ما تعلمته من وظيفة نص التعبير مع ولدي وما أردت أن أشير إليه هو أن بناء الوطن يبدأ ببناء الجيل الذي يتعلم يشكل واضح وكامل لكافة حقوقه وواجباته. ولكن هذا العلم والمعرفة لا يكتملان إلا باختبار هذه الحقوق في الحياة العملية بحيث يرى هذا المواطن قدرته على التغيير.
هي خطوط متوازية يجب أن يكون المسير بها واحداً في آن معاً: تغيير النفوس ومحاسبة الذات ومحاسبة المسؤول عن عهده ومسؤوليته.
لا أدري متى سيكتمل طريق التغيير في لبنان، ولكني أؤمن أن ما حرمنا من تعلمه في الصغر تعلمه الكثير منا في وحشة الغربة والسفر. ولهذا نجد اليوم هذا الخوف المهول من إعطاء المغترب حقه في التصويت فمن لديهم من أغنام الطائفية والميليشوية لم يعد متوفراً بين أجيال المغترب الذي تعلم ورأى وشاهد كيف تكون الدولة وكيف تكون الجمهورية… جمهورية لبنان وليس جمهورية الموز بالتأكيد…