مقالات خاصة

هل فتحت تركيا باباً للتطبيع مع النظام السوري ؟

كتب الباحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية الأستاذ طه عودة أوغلو في موقع “سراي بوست”

ما زال العنوان العريض بالنسبة للموقف التركي من حكومة “النظام السوري” يحمل ضبابية المشهد وإن بدا في الأسابيع الأخيرة وكأنه يحمل في ثناياه بوادر لتطور مهم يحصل من خلف الأبواب بهدف تفكيك العقدة السياسية التي تحول دون عودة المياه إلى مجاريها بين تركيا وسوريا. 
الحديث في الأروقة السياسية التركية يدور حاليا حول تحضيرات تجري لعقد صفقة استراتيجية ومصيرية بين “أنقرة” و”دمشق” وسط أحداث متسارعة ومساومات معقدة تشارك روسيا بإدارتها وقد تتسع لاحقا لتضم دولا أخرى سعيا لإيجاد تسوية يمكن أن تسطر نهاية سلمية للأزمة السورية وذلك في ظل التصريحات الإيجابية الأخيرة الصادرة عن كبار المسئولين في حكومة “أنقرة” والتي تشير إلى أنه ربما قد يكون هناك نوع من إمكانية الحلحلة والانفتاح التركي على التطبيع السياسي مع  النظام السوري تزامنا مع الجهود المبذولة لتحسين العلاقات مع كل من مصر والإمارات العربية المتحدة.
أحدث هذه التصريحات، جاءت على لسان برهان الدين توران عضو مجلس الأمن والسياسات الخارجية بالرئاسة التركية الذي تحدث في مقال له بصحيفة “ديلي صباح” المحلية عن أولويات “أنقرة” في سوريا خلال المرحلة الراهنة، فقال:”تركيا لا توجه نهجها في الصراع السوري حاليا نحو إسقاط النظام بل تهدف عوضا عن ذلك إلى تسهيل عودة اللاجئين السوريين بطريقة كريمة، وقطع الطريق على الكيان الإرهابي حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب الكردية”. 
المسئول الرفيع المستوى لم يفجر فقط  مفاجأة أن (تركيا لم تعد ترى في إسقاط نظام الأسد هدفا لها) بل وذهب أكثر إلى شرح البراغماتية التركية، بالقول:”في البداية لا بد لنا وأن نحلل الأسباب الكامنة وراء تطبيع السياسة الخارجية التركية ذلك أن التطبيع بين مختلف اللاعبين في الشرق الأوسط وسياسة “الصفحة الجديدة” لتركيا يعكسان التغيرات الجيوسياسية على المستويين الإقليمي والعالمي. 
وفي النهاية، فإن كل دولة لديها تضارب في المصالح مع حلفائها ومصالح معينة متلائمة مع خصومها.. بالتالي كل الدول تعيد النظر في خياراتها السياسية وانتقاء حلول جديدة إذا لزم الأمر”.
إذا، ومن هذه التصريحات يمكن أن نستشف أنه في حال اقتنعت “أنقرة” بسلوك حكومة بشار الأسد والقرارات التي ستصدرها في المرحلة المقبلة لا سيما تقديم ضمانات اجتماعية وسياسية وقانونية كافية لتسهيل العبور نحو مرحلة جديدة في البلاد، والقبول بمشاركة الأطراف المعارضة في الحكم، ودمقرطة المجتمع السوري، واستعدادها للانفتاح الحقيقي على المجتمع الدولي، فإن ذلك سيكون بمثابة خطوات تشجيعية لتذليل الخلافات وإيجاد نقاط الالتقاء لا سيما أن أنقرة لا زال متمسكة بمبدأ أن من واجبها الدفاع عن حقوق الشعب السوري بعد كل التضحيات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي قدمتها في هذا الطريق.
ويجمع الخبراء على أنه رغم كل الخلافات الجوهرية بين حكومة الرئيس إردوغان والنظام القائم في سوريا حاليا إلا أن هناك الكثير من الأسباب المبررة (سياسيا وأمنيا) تدفع باتجاه الحوار والتعاون بين الطرفين أهمها محاولات بعض الجهات الأجنبية المستفيدة من الفوضى السورية للشد والمط في الأزمة عبر اللعب بورقة الانفصاليين الأكراد والجماعات المتشددة، بدأ يؤثر بقوة على الواقع السياسي في الداخل التركي وتسبب بتراجع شعبية الرئيس إردوغان وحزبه الحاكم الذي يستعد لخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عام 2023 وسط استياء كبير من الشعب التركي لوجود اللاجئين السوريين في البلاد وتفاقم مشاعر العداء والرفض لاستضافتهم متأثرين غضبا من تصريحات الحكومة أنها صرفت مليارات الدولارات على اللاجئين بينما مواطنيها يعيشون أوضاعا اقتصادية مأسوية..هذا عدا طبعا عن التحديات الأمنية الكبيرة التي ستبقى تطوق عنق تركيا كلما ازداد الوضع السوري تأزما.

كل هذه الاعتبارات، تضغط على “أنقرة” لاتخاذ مسافة معينة من الأحداث السورية الداخلية والالتفات إلى المصلحة الشاملة متسلحة بالبراغماتية السياسية جنبا إلى جنب مع نصائح “موسكو” التي ترى أن النظام السوري هو فاعل حقيقي على الأرض لا يمكن تجاهله أو تجنبه..
 وطبقا للمراقبين السياسيين، فإن التطورات الإقليمية المتسارعة دفعت الأتراك للتفكير مليا حول محورية الدور الروسي في سوريا كون “موسكو” هي التي تشل التحركات والمشاريع التركية في سوريا. 
بالتالي، يمكن لأنقرة القبول بواقع أنه لا بأس من الذهاب لحوار مع رئيس النظام السوري فإن كان لن يضرها في شيء لكن قد يحقق لها منافع تتعلق أولا بتوازناتها الداخلية، والتخلص من المشكلة الأساسية المتمثلة باللاجئين من خلال لم الشمل بالداخل السوري، وإفشال المؤامرات الخارجية ضدها ومكافحة المنظمات الإرهابية التي تتسلل إليها من سوريا عدا عن امتيازات جيوسياسية واستراتيجية جديدة أمنية واقتصادية وتجارية.
واستجابة للظروف والتطورات الإقليمية والدولية المستجدة، يبدو أن تركيا تبحث حاليا بنهج عقلاني عن وسيلة لإدارة الفوضى القائمة في الملف السوري ومعالجة أزمة اللاجئين ومساعدة الشعب السوري عبر مبادرة دبلوماسية تنخرط فيها بمفاوضات مع النظام السوري تسهل حل الأزمة.. 
فرضية “المفاوضات” يبدو أنها باتت قابلة للتطبيق على الأرض بشكل جدي، إذا أخذنا بمبادرة الرئيس إردوغان، العام الماضي، في تغيير الطاقم المسئول عن إدارة الملف السوري داخل وزارة الخارجية، ودائرة الاستخبارات والأجهزة الأمنية.
هناك من يقول أن الخطوة السياسية الأولى لأنقرة ستكون بإرسال وفد من المعارضة التركية للقاء الأسد خصوصا بعد أن كشف النائب السابق في حزب “الشعب الجمهوري” المعارض باريش ياركاداش أن بشار الأسد وجه دعوة لزعيم حزبه كمال كليجدار أوغلو من أجل زيارة “دمشق” ومناقشة سبل التنسيق فيما يخص إعادة اللاجئين.  
لكن وقبل اتخاذ أي خطوات سياسية، الحديث يدور حاليا عن أن التقارب التركي-السوري سوف يتم صياغته والتفاوض عليه أولا في اللقاء القريب المزمع عقده بالعاصمة العراقية “بغداد” بين رئيس جهاز المخابرات التركي هاكان فيدان، ومدير مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك.
انطلاقا من هذه الاعتبارات، يبدو واضحا أن “أنقرة” حريصة على إعادة برمجة بوصلتها السياسية فيما يخص الملف السوري بعد معاناة طويلة عمرها أكثر من 10 سنوات. بالتالي، وفي ضوء قراءة دقيقة للواقع الإقليمي والدولي الجديد، فإن إيجاد حل لجرح الأزمة السورية النازف بأسرع وقت ممكن، بات أمرا ضروريا بالنسبة لحكومة حزب “العدالة والتنمية” الحاكم برئاسة أردوغان أولا؛ لاستقرار تركيا سياسيا وأمنيا واقتصاديا. ثانيا؛ لاحتواء نزيف القاعدة الشعبية الذي بات مقلقا لمستقبل الحزب الحاكم.

طه عودة أوغلو

باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية حاصل على درجة البكالوريوس بامتياز من جامعة يلدز في إسطنبول كلية الهندسة الكيمائية. -أكملت دراساتي في مجال الإعلام من خلال الدورات المكثفة في وكالة الإسوشيتدبرس الأمريكية في لندن خلال أعوام 1999 و2002 و2006. أعمل في المجال الصحفي منذ عام 1998 وشاركت في إصدار وتحرير نشرة إخبارية باللغة العربية في وكالة إخلاص للأنباء التركية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى