زوبعة وهبه انتهت: المملكة لا تُدير ظهرها للبنان
كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
لم يكن انفعال وزير الخارجية المعفى من مهامه الوزارية شربل وهبه فعلا طارئاً او حدثاً تليداً على مسار العلاقات السعودية اللبنانية التي تتمدّد وتنحسر بفعل الاحداث التي يشهدها لبنان، والتي تدلل على علاقة استثنائية حتى في الظروف الصعبة التي تعوّد عليها لبنان. فالعلاقة بين البلدين ليست علاقة عادية او طبيعية بالمفهوم العام بل لها خصوصية وتميز لم تحظَ به اي علاقة للبنان مع غيره من الدول العربية، ومنبع ذلك مكانة المملكة وحضورها وهي التي دأبت لفترات طويلة على اعطاء لبنان خصوصية الرعاية والاحتضان، قبل ان تصبح علاقة يحاسب بها على التفاصيل وعلى الهنات الهيّنات، لترتد تأزماً في احيان كثيرة لا يستطيع لبنان ان يتحمل تبعاتها، بعدما كان له دور في نهوض الديبلوماسية السعودية عند تأسيس المملكة. فالمؤسس الفعلي للسلك الديبلوماسي السعودي في اربعينات القرن الماضي هو اللبناني فؤاد حمزة، الذي عينه الملك عبد العزيز وكيلاً لوزارة الخارجية السعودية عام 1927.
حتى الأمس القريب، اتسمت السياسة السعودية في لبنان بالوسطية والتوافقية والابتعاد عن المواجهات المباشرة. ترسخ حضورها المالي الى جانب مكانتها الدينية، أما الحضور السياسي فكان دائم التأثر بالصراعات العربية في المنطقة.
عندما تذكر السعودية يتبادر الى الذهن اتفاق الطائف الذي انجز في العام 1989 بتضافر جهود عربية ودولية، وشخص الرئيس الراحل رفيق الحريري، والاستثمارات وتدفق الاموال، عوامل ثلاثة لم يعد وجودها كسابق عهده، فاتفاق الطائف خفتت فعاليته لا سيما بعد اتفاق الدوحة، والرئيس الحريري استشهد، والتقديمات المالية السعودية انعدمت.
يقوى حضور السعودية في لبنان او يتراجع طبقاً للظروف، لكن المعروف ان المملكة التي كانت تتجنب خوض معاركها مباشرة مع خصومها، ولم تصل معهم الى حد العداوة، دخلت في المرحلة التي تلت العام 2005 في مواجهة حادة مع “حزب الله” لتوسع نفوذه، فتقصدت تخفيف حضورها السياسي وحتى الديبلوماسي في محطات سياسية وأمنية عديدة.
تجلّى هذا الواقع في الموقف الذي عبرت عنه اثناء “حرب تموز” العام 2006 حين تحدثت على لسان وزير خارجيتها الامير سعود الفيصل، عن “المغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل الدولة ومن وراءها من دون الرجوع الى السلطة الشرعية في دولتها”. وفي العام 2008 اعقب احداث السابع من ايار اتفاق الدوحة الذي انهى 18 شهراً من الازمة السياسية في لبنان، ليسجل تراجعاً رسمياً للديبلوماسية السعودية لصالح قطر. يومها اعتبر الاتفاق بمثابة انقلاب على “الطائف” اتجهت بعده السعودية الى معادلة السين – سين، في اعقاب انتخابات 2009 والاستدارة باتجاه سوريا عبر زيارة للملك عبد الله بن عبد العزيز للرئيس السوري بشار الاسد في دمشق، وبعده بأشهر قليلة وفي اواخر العام ذاته زار رئيس الحكومة سعد الحريري دمشق ايضاً وأجرى محادثات مع الاسد وصفت بالتاريخية.
لكن الحريري لم تسعفه حكومته التي واجهت انقساماً قوياً بعد تعثر تسوية المشكلة المتعلقة بالمحكمة الدولية، اثر رفضه عقد جلسة لمناقشة قضية شهود الزور بجريمة الاغتيال. وفي لحظة استقبال الرئيس الاميركي باراك اوباما للرئيس الحريري تقدم 11 وزيرا باستقالاتهم، “نتيجة التعطيل الذي اصاب الجهود الرامية الى تخطي الأزمة الناتجة عن عمل المحكمة الدولية”، كما صرح الوزير جبران باسيل. لتسقط الحكومة في العام 2011 ويكلف نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة. حينذاك اتهمت السعودية سوريا وايران بالانقلاب على السين – السين.
ومع اندلاع الحرب في سوريا وازدياد الشرخ في لبنان بين مؤيدي النظام والداعين لإسقاطه، قدم الرئيس ميقاتي استقالته ليعقبه الرئيس تمام سلام وتدخل علاقة لبنان مع السعودية في هدنة، ما أمن عودة الدور السعودي الى لبنان بعد أكثر من عامين على الانكفاء، لتلعب دوراً في تسمية تمام سلام الذي زارها قبل تكليفه تشكيل الحكومة عام 2014. وشهدت تلك الفترة عودة اهتمام سعودي نسبي الى لبنان وصولاً الى التسوية عام 2016، التي أدت الى انتخاب عون حيث كانت مرحلة التفاهم على الملف النووي بين الرئيس الاميركي باراك اوباما وايران وأرسلت السعودية الأمير تركي الفيصل للتهنئة.
مرت علاقة لبنان مع السعودية في مرحلتين حديثتين طبعتا عهد الرئيس ميشال عون، انطلقت بشكلها الجيد في بداية العهد وتجلت بزيارة قام بها رئيس الجمهورية الى المملكة، وبحد ادنى من الانسجام والتعاون لتكون نقطة النهاية مع أزمة إعلان الرئيس سعد الحريري الملتبس استقالته من الرياض، ليدخل البلد في مرحلة هي الأصعب والأشد توتراً على مستوى العلاقة مع السعودية. حصل ذلك فيما شهدت المنطقة انفجاراً للاوضاع في اليمن وانعكس الصراع السعودي الايراني على الداخل اللبناني، وألغت السعودية، عقد تسليح فرنسي للجيش اللبناني كانت ستتكفل بتسديد قيمته البالغة 3 مليارات دولار، وصنفت دول مجلس التعاون الخليجي (باستثناء سلطنة عُمان) حزب الله “منظمةً إرهابية”، وتم إبعاد عشرات اللبنانيين المقيمين في دول الخليج. مجدداً دفعت العلاقات الثنائية ثمن الصراعات في المنطقة. انتهى عهد الديبلوماسية المرنة. ولكن ماذا عن واقع العلاقة اليوم؟
تتحدث مصادر مقربة من المملكة السعودية عن اختلاف مرحلة الملك سلمان ومرحلة ولي العهد محمد بن سلمان عما سبق من مراحل في العلاقات اللبنانية السعودية. منذ العام 2017 وتسلم محمد بن سلمان ولاية العهد وضع سياسة جديدة للمملكة تقوم على العلاقات بين الدول وليس بين الدولة وبين أفراد أو أحزاب، وهو يريد ان يتعامل مع لبنان ككل كدولة وان تكون هناك اتفاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية لبنان، وهو المشروع الذي سبق وعمل عليه رئيس الحكومة سعد الحريري ولم يبصر النور بسبب تراكم الاحداث التي حصلت حينذاك.
حتى الامس القريب كانت المملكة السعودية تنظر الى لبنان على انه جزء من محور المقاومة الموالية لايران وتتعاطى معه على هذا الاساس، وهي اعتبرت عملياً ان رئيسي الجمهورية والحكومة اي ميشال عون وسعد الحريري أكثر التصاقاً بـ”حزب الله” مما هما اقرب اليها. لم يعد لبنان اولوية للمملكة ولا رئاسة حكومته، حتى كأنها لا تريد تحمل عبء الطلب من الرئيس المكلف الاعتذار او السير بتشكيل حكومة.
يتحدث المطلعون على السياسة السعودية عن قرب عن مرحلة جديدة في العلاقة بدأت حين استدعى عون سفير المملكة وليد البخاري، وأبلغه تأييده المبادرة السعودية لوقف الحرب في اليمن، عندها بدأ عون بترميم علاقاته مع المملكة وضمن هذا الاطار يندرج طلبه من وزير الخارجية شربل وهبة التنحي لأنه والنائب جبران باسيل يريدان لمسار العلاقة مع السعودية ان يتغير نحو الافضل، وهو ما يتم العمل عليه. في المقابل تؤكد السعودية انها لن تدير ظهرها للبنان لكنها تريده في الحضن العربي والّا يلحق الضرر بها. أزعجتها محاولة تهريب المخدرات، وتدريب الحوثيين على يد “حزب الله”، والتعرض لها عبر بعض وسائل الاعلام في لبنان. تستغرب كيف يريد لبنان تقديماتها بينما لا يريد ان يبادلها العطاء بمثله.
تؤكد المصادر المطلعة على الجو السعودي أن زوبعة التوتر الحالية انتهت مع رحيل وزير الخارجية، اذ “لا يجب ان يحمل الشعب اللبناني فوق طاقته ولا يجب ان نتعاطى مع لبنان كدولة صديقة وشقيقة بما لا يتناسب مع خطأ ارتكبه فرد”. وعلى مستوى رئاسة الحكومة لا تريد المملكة الحريري رئيساً للحكومة وجاء من يبلغ الاخير الرسالة بصراحتها، لكن الى الآن هم يلمحون الى عدم رغبتهم بوجود الحريري من غير أن يصرحوا بشكل واضح، خصوصاً وان لا طرح لبديل بعد.
ضمن الحوارات الدائرة في بغداد ودمشق سيكون للبنان نصيبه منها، مع تعويل على اللقاء الفرنسي السعودي المرتقب والذي سيبحث بالعمق الملف اللبناني الفرنسي، وفق ما تنقل المصادر عينها التي استوقفها تأييد النائب طلال ارسلان ورئيس المردة سليمان فرنجية للسعودية في مواجهة وزير الخارجية، ورأت فيه مؤشراً سورياً الى الانعطافة في العلاقة السورية السعودية، لتختم أن لا حكومة في لبنان الا حين يتضح مسار بغداد والانتخابات الايرانية في حزيران المقبل.