مقالات خاصة

الحياة في تركيا وقرار الهجرة والسفر

د. وسيم بكراكي

مع تأزم الأوضاع السياسية والمعيشية في وطننا الحبيب لبنان، ومع فقدان أبسط الحقوق الوطنية التي ينعم بها حتى أفقر بلاد العالم، وغياب ابسط متطلبات الحياة اليومية من بنزين وكهرباء ومياه وأمن واستقرار، أصبح اللبناني بشكل عام وبخاصة أهل الشمال المهمش بشكل مفرط يحاولون محقين بشتى الطرق للخروج من هذه الأزمة إلى بلاد يحظون فيها بنوع من الراحة المعيشية والكرامة وهو بالطبع حق لكل إنسان أن يحصل عليه لا يمكن لأحد أن يعترض عليه.
وبالرغم من أنني أعتبر شخصياً أن زيادة الهجرة من لبنان وتفريغ المدن من أهلها وعائلاتها هو أمر خطير ويحتاج وقفة كبيرة لمحاولة عكس وتغيير هذه الهجمة وجعلها بشكل عكسي إلى لبنان الذي لا يمكن تركه لأي غريب، ولكنني بالطبع لا يمكنني ولا يمكن لأحد منا أن يمنع هذه الهجرة في هذه الظروف الحالية ولا أن يضع العقبات أمامها. وبالتالي فإن واجبنا الوطني تجاه أهلنا يقتضي أن نتحدث عن الأمور التي سيتعرض لها إخوتنا في الوطن عند الهجرة الى الخارج كي لا نصل الى ما أصبح يقوله الكثيرون: “ردوني الى بلدي خليني موت بين أهلي ولا أنذل عند الغريب”.
للأسف الشديد أصبحت هذه الجملة تتردد كثيرا لدى أناس قد تشاهدهم وأنت تتجول في منطقة التقسيم في إسطنبول حيث تجد لبناني يعرض هويته اللبنانية ويستجدي العابرين طلبا للعون والمساعدة. أو قد تشاهد مسكيناً ينام على التربة في حديقة مسجد الفاتح أو في حديقة من حدائق مدينة إسطنبول او قد تجد أحدهم وقف مستجدياً على باب القنصلية العامة التي لا حول ولها ولا قوة لإنقاذ عشرات وربما مئات الحالات التي أصبحت تأتي الى تركيا وهي تظن أن الطريق معبد لها وأن الرئيس أردوغان بنفسه ربما سيقف منتظراً وصولهم ليقدم لهم الزهور والوظيفة ومفتاح الشقة والسيارة. كيف لا وهو خليفة المسلمين الأوحد الذي يقدم كل مستحيل.
لا تعجبوا ولا يظن أحدكم أني قد أبالغ في هذه العبارات فهناك فعلاً من طلب مني شخصياً مثل هذه الامور وأكثر. كمن يريد لقاء الرئيس أو الوزير الفلاني أو يريد أن يقدم له الرئيس ما يطيب بنفسه ويتمناه. ولكن أرض الواقع هي مختلفة عن تصور هؤلاء وليست أبدا كما تصورها شركات الإقامة والخدمات العامة التي تعدك بالعمل الجاهز والإقامة وكل تسهيلات الحياة لتأتي وتتفاجأ أن الحياة الحقيقية مختلفة عما رسمه لك هؤلاء إما غباء أو لتحقيق عملية نصب أو لأنه يظن أنه يقوم بعمله وعليك انت تحمل عواقب قراراتك. وهنا نأتي إلى قاعدتنا الأولى؛ ” لا تعتمد بقراراتك على أقوال شركات الخدمات العامة فأنت سلعة بالنسبة إليهم ولن يهمهم أمرك بعد أن يحصلوا منك على ما يريدون”
إذن، ولكي نعود إلى أرض الواقع ولكي نحسب أمورنا بشكل متقن، يجب على كل مواطن لبناني أن يضع نصب عينيه أمورا كثيرة قبل أن يقدم على خطوة السفر إلى تركيا وتغيير وجهة حياته وحياة عائلته وأبنائه.
وكما قلت في بداية مقالي إن لم يكن بإمكاننا منع السفر فيجب علينا أن نكشف للناس حقائق يجب أن تساعدهم في أخذ القرار الصحيح والسفر بشكل يضمن لك الكرامة وعدم التعرض للنصب هنا وهناك.
وأريد أن اعبر بجملة أخيرة قبل الخوض في التفاصيل: هناك نوع من الناس سترد على ما أقول بشكل مباشر أو من وراء ستار وتسأل: “لماذا تصعبون الأمور على الناس… دعوا الناس تتنفس… وكيف تعيشون أنتم وغيركم هناك وتضعون العقبات أمام من يريد أن يأتي ويجرب حظه…”
أخي/أختي الكريم/ة لهذا السبب تحديداً أكتب هذه الكلمات لتتمكن من وضع تصور مكتمل عن هذا البلد ومتطلباته لكي لا تصل إلى وقت تندم فيه على كل شيء.
كلنا يعلم أن السفر يعني أنك بحاجة لأساسيات لا يمكنك العيش بكرامة بدونها وهي: البيت، العمل و/أو مصدر للرزق، إقامة قانونية. وبالتأكيد الحذر الشديد من زمرة النصابين الذين يستغلوا هذه الأمور الأربعة تحديدا ليصلوا إلى ما لديك من مدخرات كبيرة كانت أو قليلة فأنت السلعة المفضلة لهؤلاء.

دعونا ندخل في التفاصيل:

  1. السفر لديه تكاليف تبدأ مع شراء تذكرة السفر وأنت في لبنان. وهنا يقع البعض في الخطأ الأكبر. على الرغم من أن شركة الطيران والأمن العام تجبر اللبناني على شراء تذكرة سفر ذهاباً وإياباً ممن لا يمتلك إقامة أو جنسية في البلد الذي سيذهب إليه ولكن هناك من يقوم برد تذكرة العودة ليحصل على مبلغ ضئيل فعليا لأنه ينوي الاستقرار هنا والمشكلة الأكبر أن بعض الشركات تساعده في هذا الأمر ظناً منها أن في هذا الأمر مساعدة لهؤلاء ولكنه يعرضهم لأكبر مشكلة فعليا.
    أ- عزيزي المواطن، لا تعتبر نفسك ذكياً عندما تتعاون مع شركات الطيران أو أحد مكاتبها أو أحد العاملين في هذا المجال وتقوم بإعادة تذكرة العودة بعد أن تصل إلى تركيا لتحصل على بضعة ملاليم لن تساعدك فعليا في شيء.
    ب- عزيزي مكتب السياحة والسفر الذي يؤمن للمواطن هذه الخدمة: أنت لا تخدم الناس. .. أنت تخرب بيتهم ببساطة.
    إذن لنجعل قاعدتنا الثانية: “تذكرة عودتي هي طوق الأمان لي ولا يجب أن أفرط فيها ابدا”.
    والسبب ببساطة هو أنك قد تتعرض في زيارتك للعديد من الأزمات، وقد تجد عكس ما تمنيت، وقد تفقد ما لديك من مال أو يسرقك ابن وطنك أو أخوك في العروبة، وبهذا الشكل ستكون تذكرة العودة وسيلة نجاتك وعودتك وإلا ستكون نموذجاً آخر لمن يفترش الطريق ويمنع يده للمساعدة التي قد لا يجدها أبدا.
  2. المواطن اللبناني لديه الحق في الإقامة 90 يوم كل 180 يوم. يعني عليك مغادرة تركيا قبل انتهاء هذه المدة القانونية أو أن تحصل على إقامة قبل هذه المدة أيضا. وبالتالي، تأتي القاعدة الثالثة التي تقول:
    اذا كنت تنوي الاستقرار في تركيا قدم على الإقامة بأسرع وقت ممكن لكي لا تصل إلى مرحلة المخالفة القانونية ودفع الغرامة وربما الحصول على منع سفر قد يصل أحيانا لمدة 5 سنوات.
    ومدة 90 يوم كل 180 يوم لا تعني 180 يوم متواصلة كل 360 يوم. بل بعد 90 يوم عليك أن تخرج 90 يوم ويمكنك بعدها أن تعود مدة 90 يوم جديدة.
    هذه المدة مهمة جداً لمن يريد اكتشاف البلد بشكل دقيق. يمكنك أن تتعرف على تفاصيل هذا البلد خلال هذه المدة وتقرر خلالها هل هو مكان يصلح لأن أعيش فيه أو لا. الغربة لمجرد الغربة غباء إن لم تكن هذه الغربة تقدم لك ما هو أفضل لك مما أنت فيه.
  3. إن كنت رب عائلة فإياك أن تعرض عائلتك مباشرة للخطر والذل. يجب عليك أن تأتي بمفردك إلى تركيا وأن تدرس أوضاعها وتؤمن نفسك وسكنك وعملك أو مصدر رزقك أولا ثم تستدعي باقي أفراد العائلة بعد أن تتمكن من تأمين الأشياء الأربعة الأساسية التي تحدثت عنها؛ البيت، الاقامة، العمل أو مصدر الرزق الخارجي. ولا تنسى أن العائلة تعني أن هناك مدارس للأولاد يجب أيضا أن تفكر فيها أيضاً وتعلم أن أقل مدرسة خاصة دولية هي 1000 دولار وما فوق لمدن غير اسطنبول. وداخل اسطنبول تتحدث عن 1500 دولار للطالب الواحد وما فوق. كما أن مدارس الدولة تحتاج أولا إلى مراجعة وزارة التربية التركية التي ستحدد لك إمكانية قبول ابنك في المدارس التركية أو لا. ناهيك عن صعوبة تأقلم الطالب مع اللغة التركية إن كان في الصفوف الأعلى من الأول الابتدائي. كذلك صعوبة عودته للدراسة في لبنان اذا تعلم باللغة التركية. يعني القاعدة الرابعة تقول:
    التعلم في مدارس الدولة ليس حل وهو سلاح ذو حدين قد يكون سبباً في ضياع أولادك
  4. البيت؛ وهذا الشق هو من أهم الأمور التي لديها عدة جوانب. فمدينة اسطنبول هي من أكبر مدن العالم ومن أكثرها كثافة سكانية ولهذا فإن السكن في مكان بعيد عن العمل وعن مدارس الأولاد سيكون خطوة غير موفقة ابدا وستدفع ثمنها من طاقتك ووقتك ومالك.
    كما أن كثافة السكان واعتبار مدينة اسطنبول مركز عالمي للجامعات يزيد من صعوبة استئجار بيت وبخاصة مع بداية العام الدراسي من كل سنة أي في شهري آب وأيلول حيث ترتفع أيضا أسعار هذه الإيجارات بسبب ارتفاع الطلب.
    يمكن الإشارة هنا الى أن التواجد اللبناني والعربي الأكبر هو في مناطق استيورت/ بيليك دوزو وعلى امتداد خط المتروبوس مرورا بمنطقة أفجلر وهي أغلب المناطق الأقل سعراً والأكثر شعبية وعرضة لخطر الزلزال تماما كمنطقة باغجلر التي تعج أيضا بالجاليات العربية المختلفة. كما أن التواجد اللبناني هو أيضا في مناطق باشاك شهير/ كاياشهير ومنطقة باهتشه شهير وهي من أفضل المناطق للسكن وأكثرها أمانا من ناحية الزلازل وجودة الأبنية وحداثتها. ولكنها بالطبع مرتفعة الإيجارات مقارنة مع المناطق التي ذكرتها بداية.
    المنطقة الثالثة لتجمع اللبنانيين هي منطقة كاغتهانه وشيشلي والفاتح والتقسيم أي المدينة القديمة أو وسط المدينة بتعبير آخر وهي أكثر المنطق تميزاً بنظري لكونها تتوسط كل شيء ويمكنك أن تجد فيها البيوت العادية والدولوكس بنفس الوقت أي بشكل يخاطب جميع الاحتياجات المختلفة. ولكنها منطقة تقل فيها المدارس العربية والدولية نسبة بالدائرة الأولى والثانية التي ذكرت.
    إذن نحن أمام ثلاث مربعات سكنية يمكننا الحديث فيها عن أسعار للايجار تبدأ من 1500 وصولا إلى 5 أو 6 آلالاف ليرة تركي حسب حجم البيت وجودته وخصائصه.
    قد تجد منازل أقل للايجار ولكنها لن تكون ابداً ضمن نطاق اسطنبول بل في أطرافها البعيدة.
  5. العمل؛ أو مدخول خارجي يمكنه أن يغطي تكاليف المعيشة المرتفعة في تركيا هو أمر مهم جدا يجب أن يتوفر لديك. وإلا فأنت أمام خيار آخر وهو تأمين العمل المناسب الذي يكفل معيشتك. وهنا ستدخل في تفاصيل أدق المصاريف. مع العلم أن معظم الأعمال هنا هي بالحد الأدنى للأجور وبخاصة مع وجود العمالة والشهادات العلمية من مختلف الجنسيات العربية الموجودة في تركيا بالملايين. كما يجب أن تعلم أن الحد الأدنى للأجور بشكل رسمي في تركيا هو 3577 ليرة يعني حوالي 440 دولار شهريا. معاش المهندس 7 الى 8 الآلاف ليرة. معاش المدرس الرسمي 5 إلى 6 الآلاف ليرة…. وهكذا… معظم المعاشات هي معاشات غير مرتفعة كما يظن الكثيرون وهي تكفي لمعيشة عائلة صغيرة ربما. وإذا كنا نتحدث عن الحد الأدنى لشخص أجنبي فبالتأكيد مثل هذا المعاش لن يكفي للمصاريف الهائلة التي نتحدث عنها من إيجار منزل الى مصاريف الإقامة إلى فواتير البيت المختلفة ومن ثم أقساط المدارس والمعيشة الشهرية للطعام والشراب بمتوسط 4000 ليرة لعائلة من 4 أشخاص تقريبا يمكن أن تكون أقل بالتأكيد لمن يريد حياة التقشف.
  6. بعض الأعمال ممنوعة في تركيا للأجنبي ومنها: طب الأسنان، الصيدلة، التمريض، والعلاج الفيزيائي. ولا يمكنك العمل بها مهما كانت الظروف.
  7. تأمين الإقامة وهو موضوع تحدثت عنه سابقا ويحتاج ربما أحاديث وأحاديث. ولكني أكتفي هنا بالقول :لا تثق بأي مكتب خدمات وقم بما تريده وتحتاج بنفسك.” ستواجه صعوبات ولكن ستجد من يساعدك ببساطة بشكل مجاني لمعرفة كيفية تقديم الطلب.
    اخيرا، شخصيا أتألم لوجود أي حالة من حالات الفقر والأفراد والعائلات وأحيانا بشكل غريب السيدات /الآنسات الذين نصل إليهم في أسوأ الظروف ولا يمكننا أن نقدم لهم شيء. ولهذا أتمنى أن “نعقل ونتوكل.” ومن أراد حياة الكرامة فأهلا به مستعدا لما سيخوضه من حرب في الغربة وسنكون معه بكل ما يمكننا توجيهه فيه ومساندته في كل ما يريد. ولكن من هو مصر على رمي نفسه بالتهلكة دون أي مقومات للنجاح فلا عذر له بعد اليوم إلا نفسه.

الدكتور وسيم بكراكي

إختصاصي طب أطفال طبيب تركي لبناني رئيس جمعية الثقافة والصداقة اللبنانية ( توليب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى