مقالات خاصة

انسحاب الجيش التركي من ليبيا

الدكتور وسيم بكراكي

مع كل زيارة نشاهدنا لأحد الوفود التركية رفيعة المستوى، أو مع زيارة أي وفد ليبي جديد لتركيا، ترتفع هنا وهناك بعض الدعوات التي تطالب الجيش التركي بالانسحاب من الأراضي الليبية في دليل واضح على أن الجيش التركي يجثو على صدور الكثيرين من مدعي الحرية والاستقلال.

من يتابع الشأن الليبي عن كثب يعلم تمام المعرفة أن وجود تركيا في ليبيا اليوم هو أمر مصيري كان وما يزال صاحب تأثير مباشر على سير الأمور نحو السلمية في البلاد بدءاً من تحرير العاصمة الليبية طرابلس ومن ثم تقليص مناطق نفوذ حفتر جغرافياً وسياسياً وعسكرياً. وبالتالي منذ أن تم القيام بثورة الربيع العربي في ليبيا مروراً بمقتل القذافي وحرب التحرير التي تنازعت فيها مختلف القوى العسكرية والسياسية، نحن نشاهد اليوم حكومة وطنية ليبية تحظى بأمل كبير للوصول إلى بر الأمان في بلد كان مهدداً باستمرار الحروب فيه سنوات طويلة بلا نهاية كما شاهدناه في سوريا واليمن والعراق ومختلف بلاد الربيع العربي.

هي تركيا، الدولة التي وقفت حجراً وسداً منيعاً ضد تنفيذ ما يريدون من استمرار للفوضى والدمار. ومن فرض الأمر الواقع عبر محاصرة العاصمة وتهديد أهلها وحكومتها بمصير قاتم من القتل والتشريد والدمار. فالدولة التركية، والجيش التركي، لا يدخل مكاناً إلا ويجلب معه الأمن والسلام، فهو كما يعرفه كل العالم العربي والإسلامي، الجيش المحمدي، الذي تحبه هذه الشعوب وتحترمه وتلتصق بذاكرتها بطولاته التي كان أجدادنا جزءاً منها يشارك فيها بأجسامهم وأرواحهم ودمائهم.
دخل الجيش التركي إلى ليبيا، وقضي على أحلام حفتر ومرتزقته، وبدأت رحلة الديموقراطية، والحياة السياسية

تسري في البلاد رويداً وريداً، ولكن…لم يستسغ الكثير من أصحاب الأهداف والأطماع ما يجري، ولهذا نحن نجد اليوم بعض الصيحات التي تطالب تركيا بالخروج من الأراضي الليبية وكأنها جيوش استعمارية أتت لتحتل البلاد وتظلم العباد وتسرق الثروات.

هنا، لا بد لنا من التعرف على أهم الأسباب التي دفعت تركيا لعبور الحدود البحرية والمشاركة في دعم الحكومة الوطنية، وهي أسباب أربع رئيسية يمكن أن نذكرها على الشكل التالي:
1_ 500 سنة من الأخوة والوحدة بين الشعبين.
2- تاريخ مشترك وثقافة مشتركة بين البلدين.
3- اتفاقيات ثنائية موقعة بشكل رسمي بين الدولتين. كاتفاقية التعاون العسكري والأمني
4- الدعوة الرسمية التي تم توجيهها لتركيا من قبل الحكومة الليبية الرسمية المعترف بها بشكل رسمي من الأمم المتحدة. وهو طلب رسمي يطالب تركيا بالتدخل وتنفيذ بنود اتفاقية التعاون العسكري وحماية ليبيا وحكومتها الوطنية.

إذن، هي أسباب رئيسية علينا أن ندركها بشكل واضح، فالجيش التركي لم يكن جيش مرتزقة يأتي لمن يدفع له المال الأكثر، ولم يكن جيشاً أجنبياً أتى بقرار ذاتي بهدف الإحتلال والإستعمار، بل هو جيش نظامي لدولة تحترم القوانين الدولية وتتصرف بناءً لما تمليه هذه القوانين، أتى بدعوة رسمية من الحكومة الشرعية الليبية، نداء كان في واقع الأمر استغاثة ضد فصائل المرتزقة التي حاصرت العاصمة طرابلس وأوشكت على احتلالها وطرد أهلها وسرقة ممتلكاتها تماماً كما حصل في كل منطقة دخلتها هذه المرتزقة مما لم يكن خفياً على أحد وربما لا يجرؤء البعض من الداخل على ذكره تحسباً وقلقاً من انقلاب الموازين من جديد.

كذلك الأمر من الجدير تقديره ومعرفته أن الجيش التركي في ليبيا هو جيش صديق يخدم مصالح الشعب الليبي (والتركي طبعاً) تحت مبدأ رئيسي وأساسي هو وحدة الأراضي الليبية وبأن “ليبيا هي للشعب الليبي” ولا يمكن أبداً أن ينظر إلى هذا الجيش نظرة المستعمر التي تساوي بينه وبين الجيوش الفرنسية والإنكليزية والإيطالية… بل هو كما ذكرت بداية الجيش المحمدي، حيث كان ولا زال جيشاً اختلطت فيه دماء الأجداد من الأتراك والعرب والليبيين في عهد السلطنة العثمانية، وبل في التاريخ الحديث مع بداية تأسيس الجمهورية التركية وحرب تشاناك قالي وقبلها كما يتباهى كل من أعرفه من الليبيين بأنهم الشعب الذي قام بحماية مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك بين صحور الشواطيء الليبية وفي بيوتها المجاورة.

لقد شارفت المرحلة الأولى على الانتهاء، وبدأت بوادر السلام ومراحل التأسيس وعودة الحياة الديموقراطية والحوارات الجدية البناءة. ولكن، ما زال أمام ليبيا الكثير حكومة وشعباً لإنجازه، وما زال أمام الجيش التركي العديد من التعهدات والبنود التي يجب عليه إنجازها بناء لما وضع من اتفاقيات مشتركة أذكر من بينها:
1- تدريب وحدات الجيش الليبي النظامي
2- تنظيف الأراضي من الألغام المنتشرة
3- المساعدات الإنسانية والصحية
4- المساعدة في وضع الإستراييجيات العسكرية ومتابعة الإستشارات الأمنية
5- المساعدة في اعادة إعمار ما دمرته الحرب من المؤسسات والمرافق الرسمية الأساسية

هذه الأهداف الأمنية هي من الضرورات الأساسية التي لا يمكن تركها عالقة في بلد خرج حديثاً من الحرب ولم تستقر فيه الأمور بشكل كامل حتى هذه اللحظة. وبالتالي، وضمن الشروط الحالية المتوفرة، لن يكون هناك فعلياً انسحاب للجيش التركي من ليبيا قبل تنفيذ هذه الأهداف، ولكن، لن يبقى الجيش التركي في ليبيا دون موافقة شرعية، ودون رضى الشعب الليبي ورغماً عنه. ولا بد أن هذه الوجود العسكري سيتحول مع الوقت إلى قواعد عسكرية محددة المهام تماماً كما هو الوجود التركي اليوم في قطر على سبيل المثال.

نتمنى لدولة ليبيا الشقيقة وللشعب الليبي أن يتجاوز محنته وأن يتقدم بخطى ثابتة نحو دولة الديموقراطية والحياة السياسية الطبيعية التي يعلو فيها صوت المواطن وتتحقق فيه الحريات ولن تكون الجمهورية التركية ولا الجيش التركي يوماً سوى دولة وجيشاً وشعباً شقيقاً يساهم في بناء هذا البلد وتعزيز أواصر المحبة والتعاون ضمن الأطر الرسمية المتعارف عليها دولياً.

الدكتور وسيم بكراكي

إختصاصي طب أطفال طبيب تركي لبناني رئيس جمعية الثقافة والصداقة اللبنانية ( توليب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى