محليمقالات خاصة

من لوبيات المال العالمية إلى العائلات السياسية في لبنان: السلطة لا تُصنع من العدم

كتب عمر بلح لقلم سياسي،

في النظام الاقتصادي العالمي، لم تعد الثروة نتيجة مسار طبيعي قائم على الجهد الفردي أو المبادرة الحرة، بل أصبحت نتاج منظومة مغلقة تتحكم بها لوبيات مالية عابرة للحدود. شركات عملاقة، صناديق استثمار، وعائلات مالية تملك القدرة على التأثير في السياسات الاقتصادية للدول، وتوجيه الأسواق، وصناعة الأزمات أو احتوائها. في هذا السياق، يصبح الانتقال من الهامش إلى قمة الهرم المالي حالة نادرة، ويغدو المثل الشعبي «خلق و بتمو معلقة دهب» توصيفًا واقعيًا لا مجازيًا، حيث تُورَّث الامتيازات كما تُورَّث الأسماء.

هذا النموذج الاقتصادي لا يبقى محصورًا في عالم المال، بل ينعكس مباشرة على السياسة. فالسلطة، في كثير من دول العالم، باتت امتدادًا لرأس المال أو أداة لحمايته. المال يفتح أبواب القرار، ويمنح أصحابه القدرة على التأثير في التشريعات، والانتخابات، والرأي العام. ومع الوقت، تتحول الديمقراطية من آلية تداول سلطة إلى واجهة شكلية تُدار من خلفها مصالح ثابتة.

في لبنان، يظهر هذا المشهد بصورة أكثر فجاجة. النظام السياسي الطائفي، القائم على المحاصصة، وفّر البيئة المثالية لتحوّل السياسة إلى إرث عائلي. لا تُبنى الزعامة هنا على البرامج أو الرؤى، بل على الاسم، والانتماء الطائفي، وشبكات النفوذ المتراكمة. تتبدل الوجوه، لكن الألقاب تبقى، وكأن الحياة السياسية دائرة مغلقة يُعاد تدويرها مع كل استحقاق.

عائلات سياسية من مختلف الطوائف أعادت إنتاج نفسها لعقود، مستندة إلى تحالفات داخلية وخارجية، وقدرات مالية، وشبكات زبائنية تربط الناس بها عبر الخدمات والوظائف والمساعدات. حتى عندما يغيب الوريث المباشر، يجري البحث عن بديل داخل الحلقة نفسها، سواء كان ابنًا أو صهرًا أو شخصية مُفوَّضة بحمل “الهوية السياسية” للعائلة. التجربة العونية مثال واضح على هذا المسار، حيث انتقلت الزعامة من المؤسس إلى صهره، لا عبر قطيعة سياسية، بل عبر الحفاظ على البنية ذاتها.

الانهيار الاقتصادي الذي ضرب لبنان منذ عام 2019 لم يكسر هذه المنظومة، بل أعاد تثبيتها بشكل مختلف. الفقر، والبطالة، وانهيار مؤسسات الدولة، دفعت شرائح واسعة من المجتمع إلى الارتهان أكثر لشبكات الزبائنية، ما عزز قدرة القوى التقليدية على التحكم بالشارع، وخصوصًا في المواسم الانتخابية. في ظل غياب دولة الرعاية، تحولت العائلة السياسية إلى بديل قسري عنها.

من هنا، يبدو المشهد الانتخابي المقبل محكومًا بإعادة إنتاج التوازنات نفسها، مع بعض التعديلات الشكلية. قد تظهر أسماء جديدة، لكن ضمن الإطار ذاته. فالتغيير الحقيقي لا يتحقق بالغضب وحده، بل بتفكيك العلاقة العضوية بين المال والسلطة، وبناء بدائل اقتصادية وسياسية قادرة على منافسة المنظومة القائمة. دون ذلك، سيبقى لبنان نسخة مصغّرة عن النظام العالمي: أقلية تملك الثروة والقرار، وأكثرية تدور في فلكها، تبحث عن فتات الاستقرار داخل نظام لا يسمح لها بالصعود.


iPublish Development - Top Development Company in Lebanon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى