محلي

متلازمة العمالة لدى حلف الأقليات: قراءة تاريخية وجيوسياسية

كتب أحمد حلواني لقلم سياسي،

في تاريخ الشعوب، لا تبدو العمالة مجرّد فعل خيانة منعزل أو قرار فردي محدود السياق، بل غالبًا ما تكون تجلّيًا لمعادلة عميقة ومعقدة من الصراعات، والتوازنات، والمصالح الدولية التي تشتبك فيها الهويات الفرعية مع المراكز الإمبراطورية الكبرى.
ولعلّ ما يُعرف اليوم بـ”حلف الأقليات” لا يمكن فصله عن هذا السياق، حيث نجد تكرارًا مثيرًا ومتشابهًا لتجارب الأقليات الدينية والإثنية في التورط بأدوار وظيفية لصالح قوى خارجية، تحت ذرائع الحماية، أو الانتقام، أو الصعود السياسي. من هذه النقطة، تبدأ قصة “متلازمة العمالة”، لا كحدث عابر، بل كمسار تاريخي أنتج دولًا، وأسقط أخرى، وأعاد تشكيل خرائط النفوذ، من السلطنة العثمانية، إلى المشرق العربي، فإيران، ولبنان، وفلسطين.

يمكن تتبّع هذه المتلازمة منذ مطلع القرن العشرين، مع بدايات تفكك السلطنة العثمانية، التي كانت تضم نسيجًا متنوعًا من الأقليات: أرمن، ويونانيين، وسريان، ويهود، ودروز، وعلويين، وأكراد. هذه الأقليات، بعضها كان متسامحًا تجاه السلطنة، والبعض الآخر حمل ذاكرة صدامية مع السلطة المركزية الإسلامية. وقد مثّل انخراط الأرمن والسريان واليهود في الجمعيات السرية مثل “جمعية الاتحاد والترقي” تحولًا حاسمًا، إذ لم تكن تلك الجمعيات مجرد تعبير عن طموحات تحديثية، بل كانت منصّات تسلل فيها النفوذ البريطاني والفرنسي واليهودي الدولي. لعبت الماسونية، في تلك المرحلة، دورًا مريبًا، ليس فقط في اختراق المؤسسة السياسية العثمانية، بل في النفاذ إلى الطبقة المثقفة والنخبوية، وبعض أمراء العائلة المالكة و السلاطين حتى، ممن وجدوا في الماسونية نافذة لتأمين ولاء الغرب أو للخروج من الانحدار السلطوي نحو مشروع موازٍ.

ولم تكن السلطنة جاهلة بما يحدث. كانت الأجهزة الأمنية تدرك الخطر، لكن الانقسام داخل المؤسسة الحاكمة نفسها، وخصوصًا بعد تسلّط جمعية الاتحاد والترقي على الحكم، جعل السلطة مكشوفة أمام مخططات محكمة قادتها شخصيات ذات صلات وثيقة ببريطانيا وفرنسا. لم يكن غريبًا أن تأتي نهاية السلطنة على يد نخبة مشبوهة تحالفت مرحليًا مع الأقليات ثم لفظتها. ساهم هذا الانهيار في نشوء فكرة مفادها أن طريق الصعود السياسي للأقليات يمر عبر بوابة العلاقة مع الخارج، لا الداخل، وأن اختراق الدولة المركزية يبدأ من خلال “مظلومية الأقلية” و”مشروع الحماية الدولية”.

انتقلت هذه القاعدة إلى إيران، حيث عمدت الإمبراطورية البريطانية ثم المخابرات الأمريكية لاحقًا إلى تجنيد وتفعيل شبكات من الأقليات العرقية والمذهبية، في سبيل كسر هيبة الدولة المركزية وتقويض نفوذ الأكثرية الشيعية التقليدية أو المؤسسة البهلوية، وفقًا للمرحلة. لم تكن الأقلية البهائية مثلًا بعيدة عن هذا السياق، فقد ارتبط بعض أركانها، وبالأخص في عهد الشاه، بعلاقات وثيقة مع البعثات الغربية، إلى حدّ اتهامها من قبل خصومها بأنها أداة تغلغل استخباراتي وثقافي. ومع صعود الثورة الإسلامية، تغير التموضع، إلا أن العلاقة بين بعض التيارات الكردية والأذرية مع الخارج بقيت أحد الأوتاد التي استثمرتها الولايات المتحدة وإسرائيل لاحقًا في مواجهة نظام الخميني، خاصة في حقبة الحرب العراقية – الإيرانية.

في المقابل، فإنّ تجربة الأقليات في المشرق العربي، وخصوصًا في لبنان وسوريا، تمثل النموذج الأوضح لما يمكن تسميته بتحالفات “العمالة البنيوية”، حيث تتحول فئة دينية أو طائفية بأكملها إلى أداة تنفيذية ضمن استراتيجية استخبارية طويلة الأمد. في الحالة اللبنانية، كان الوجود الماروني مثالًا مركزيًا. فمنذ التدخل الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر تحت شعار “حماية المسيحيين”، دخلت المارونية السياسية في شراكة تاريخية مع المشروع الكولونيالي الفرنسي، ثم لاحقًا الأمريكي، تحت مسمى “التوازن الطائفي” و”الديمقراطية التوافقية”. هذا التحالف لم يكن ناتجًا فقط عن الرغبة في الحماية، بل كان أيضًا نتاج تصور نخبوي يرى أن الصعود ممكن فقط من خلال تحالف مع الخارج، لا من خلال منافسة وطنية داخلية.

لكن الحالة الأخطر تمثلت في النموذج الشيعي الحديث، كما مثّله تحالف “حزب الله – إيران”، الذي يُعدّ تتويجًا لمشروع أقليات جديد، لكنه بلبوس أيديولوجي مضاد للاستعمار ظاهريًا، فيما هو في جوهره امتداد لمدرسة “الوظيفة السياسية للطائفة” ضمن الصراعات الإقليمية. فباسم “المقاومة”، تمكّن الحزب من تجنيد الطائفة الشيعية في لبنان ضمن مشروع إيراني توسّعي يرتبط علنًا بأجهزة الحرس الثوري، ويعمل على إعادة صياغة الدولة اللبنانية بوصفها مسرحًا وظيفيًا للنفوذ الإيراني، تمامًا كما حدث مع الأقليات في زمن العثمانيين.

أما في سوريا، فالصيغة كانت أكثر فجاجة. إذ أن صعود الطائفة العلوية إلى الحكم تمّ عبر بوابة المؤسسة العسكرية، وبغطاء بعثي – علماني في الظاهر، لكنه في العمق كان استثمارًا من النظام البعثي في هشاشة النسيج الوطني، وفي قابلية الأقليات للعب أدوار تفوق حجمها العددي، ما دام الخارج، وتحديدًا الاتحاد السوفياتي حينها، على استعداد لدعم تلك التركيبة بوصفها ضمانة ضد “المد السني”. وقد أكملت روسيا الحديثة هذا الدور، بحيث صار النظام السوري الحالي، بقيادة بشار الأسد، أقرب إلى نموذج الحاكم الوكيل لوظيفة دولية، يحكم باسمه ونيابة عن مصالح تتجاوز البلد.

ولا يمكن تجاهل الحالة الفلسطينية، حيث مثّلت بعض الفصائل المارقة، لا سيما تلك المرتبطة بأنظمة عربية أو بأجهزة غربية، نموذجًا آخر للعمالة المتخفية خلف شعارات ثورية. حتى في صفوف المقاومة، تسللت هذه المتلازمة، لتخلق فصائل تخوض صراعًا مزدوجًا: صراعًا مع الاحتلال، وصراعًا داخل الحركة الوطنية نفسها، بتغذية انقسام دائم، ما يحقق للاستخبارات الغربية أهدافها من دون أن تطلق رصاصة واحدة.

إن ما يجمع بين هذه التجارب، على تباعدها الزماني والجغرافي، هو إنتاج شكل من “التاريخ البديل” يصنعه الخارج عبر الأدوات الداخلية، مستخدمًا سرديات المظلومية والطائفية والحداثة. وقد ثبت عبر أكثر من قرن أن الأقليات حين تنخرط في لعبة القوى الكبرى، فإنها تبدأ بالربح التكتيكي، لكنها تنتهي غالبًا إلى العزلة أو إلى توريط طائفتها بحروب لا طائل منها. فتاريخ الموارنة في لبنان مثال واضح: من شراكة على رأس الدولة، إلى تراجع دراماتيكي منذ الحرب الأهلية حتى اليوم، بسبب الرهان المستمر على “الغرب الذي لا يأتي” إلا بشروطه.

لكن الأخطر، وأكثر تعقيدًا، هو ظهور “العمالة داخل العمالة” – أي حين تتحوّل الطائفة التي سبق وتحوّلت إلى أداة وظيفية لقوة خارجية، إلى ساحة صراع داخلي، تنشأ فيها شبكات تجسسية من قلب البيئة نفسها، موجّهة ضد مركز القرار داخل الطائفة. هذا ما حصل تحديدًا داخل البيئة الشيعية الموالية لحزب الله، والتي شهدت في العقد الأخير اختراقات أمنية إسرائيلية غير مسبوقة، أدّت إلى اغتيال قيادات محورية في بنية الحزب، لا عبر اختراقات عسكرية، بل من خلال تجنيد أفراد من الطائفة نفسها، يعيشون في الضاحية أو الجنوب، ويمتلكون وصولًا إلى معلومات حساسة.

لم يعد هذا النوع من العمالة مجرد حالات فردية معزولة، بل تحوّل إلى تحدٍّ بنيوي يعكس هشاشة المنظومة الأيديولوجية أمام الإغراءات الاقتصادية أو الانقسامات السياسية داخل القاعدة الاجتماعية. وقد استثمرت إسرائيل هذه الثغرة، مدعومة بتفوّق تكنولوجي استخباراتي، في رصد تحركات أبرز قادة الحزب، وتمكّنت من اغتيال عقول مركزية من الصف الأول، من بينها قادة مسؤولون عن ملفات سوريا واليمن وفلسطين. هذه التطورات وضعت قيادة الحزب أمام أزمة مزدوجة: الحفاظ على سردية “الطائفة المقاومة”، وفي الوقت نفسه مواجهة الحقيقة المرة بأن الانكشاف لم يعد خارجيًا فقط، بل داخليًا أيضًا.

ولم يكن المشهد الدرزي في سوريا بعيدًا عن هذا السياق. ففي محافظة السويداء، التي تشكّل الثقل الأكبر للموحدين الدروز، برزت في الأيام الأخيرة مظاهر “وظيفة مزدوجة” أدّاها كلٌّ من الشيخ حكمت الهجري من جهة، ووئام وهاب من جهة أخرى، بتقاطعات معقدة مع الخارج، خاصة إسرائيل. فالهجري، الذي تصدّر المشهد الديني في السويداء، استثمر موقعه الروحي لتكريس تقسيم عمودي داخل المجتمع الدرزي نفسه، فبدا في ظاهر خطابه مدافعًا عن استقلالية الطائفة، لكنه فعليًا شكّل حائط صدّ ضد أي مشروع وطني جامع، سواء من الدولة المركزية أو من القوى المدنية، متذرعًا بالحماية الذاتية في وجه الفوضى.

أما وئام وهاب، الذي لطالما قدّم نفسه ناطقًا باسم الدروز في لبنان وسوريا، فقد لعب أدوارًا علنية في توجيه الرسائل إلى إسرائيل، تارة باسم “الحفاظ على التوازن”، وطورًا بدعوات صريحة للتدخل، ما جعله أداة إعلامية وسياسية لتكريس الانقسام العمودي في الجبل السوري. وقد أدّى هذا التنازع داخل البيت الدرزي إلى تفجير موجات متلاحقة من العنف الأهلي في السويداء، حيث تحوّل الصراع من مواجهة النظام إلى صراع بين الفرقاء الدروز أنفسهم، في مشهد يُعيد إنتاج منطق “الكانتون الأمني – الوظيفي” الذي تخطط له تل أبيب في الشرق الأوسط الجديد.

بهذا المعنى، فإن “العمالة داخل العمالة” ليست مجرد ظاهرة جانبية، بل هي امتداد طبيعي لمآلات المشروع الطائفي حين يتحوّل إلى وظيفة مستدامة، وتغيب عنه المرجعيات الوطنية كوليد بيك جنبلاط الذي يلعب اليوم كما فعل والده من قبل دوراً محورياً جامع . إنها النتيجة الحتمية لتحويل الجماعة إلى كيان قابل للتفكيك والاختراق، حين يفقد مناعته الداخلية ويُختزل دوره إلى حارس حدود لمصالح الآخرين.

إن متلازمة العمالة ليست خيانة واعية دائمًا، بل هي في أحيان كثيرة نتاج رؤية مشوهة للعالم، ترى في الاستقواء وسيلة لحماية الذات بدلًا من بناء عقد وطني جامع. هذه المتلازمة تتغذى على ثلاثية: المظلومية، والعزلة، والوعد الخارجي.

اليوم، ونحن نرى تعاظم أدوار الميليشيات الطائفية، من اليمن إلى العراق، ومن سوريا إلى لبنان، علينا أن نقرأ هذه التحولات لا بوصفها حركات تحرر، بل كموجة جديدة من التوظيف السياسي للانقسامات، حيث يعاد إنتاج “حلف الأقليات” بشكل أكثر تسلحًا، وأكثر تبعية، وأكثر احترافًا استخباريًا. كل هذا يعيدنا إلى السؤال الأساسي: هل ما زال ممكنًا بناء وطن لا يكون فيه أحد عميلًا لأحد؟ وهل تستطيع الأقليات، يومًا ما، أن تكسر هذه المتلازمة، وأن تعود طرفًا في العقد الوطني، لا أداة في خارطة النفوذ؟

إن كسر المتلازمة لا يكون بتبديل الولاء من عاصمة إلى أخرى، بل بالخروج الكامل من منطق “الوظيفة”، والدخول في مشروع الدولة المواطِنة، التي لا ترى في العدد ولا في الطائفة مرجعًا للشرعية، بل ترى في الإنسان وشراكته الحرة حجر الأساس لأي سيادة حقيقية

وفي قلب هذا المشهد المعقّد، لا يمكن إغفال الدور المحوري الذي تلعبه الولايات المتحدة الأميركية، بوصفها الراعي الرئيسي لترتيبات ما بعد الاستعمار في الشرق الأوسط، والحارس الأبرز للمنظومة الأمنية والسياسية التي وُضعت منذ عقود لضبط إيقاع التحالفات والنزاعات. لقد أدركت واشنطن، بعد سنوات من الحروب والفوضى، أن استمرار متلازمة “حلف الأقليات” بوصفها أداة لإعادة تشكيل الخارطة يخدم أهدافًا تكتيكية مؤقتة، لكنه يهدّد في المدى البعيد استقرار البنية الاقتصادية التي تسعى أميركا لترسيخها، تمهيدًا لفرض هيمنتها الاقتصادية على المنطقة في وجه الصعود الصيني – الروسي.

لهذا، فإن ما نشهده من إعادة تموضع أميركي، سواء عبر الانسحابات الجزئية، أو عبر تعويم أدوار محورية لقوى إقليمية كالسعودية وتركيا، ليس انسحابًا من المنطقة بقدر ما هو إعادة ضبط للوظائف والأدوات. فالتوجه الأميركي الجديد يسعى إلى تصفية الأدوات الطائفية والميليشيوية، التي استُهلكت في مرحلة الاضطراب، لصالح بنى أكثر عقلانية واستقرارًا، تتيح لواشنطن الحفاظ على مصالحها من دون كلفة أمنية أو عسكرية عالية.

غير أن تحقيق هذا التحول لا يمكن أن يتم دون وجود وسيطَيْن إقليميين يمتلكان الشرعية والتأثير، وهما المملكة العربية السعودية وتركيا. فالسعودية، من موقعها الديني والسياسي، تمتلك القدرة على تفكيك البنية المذهبية التي يقوم عليها حلف إيران – الميليشيات، فيما تملك تركيا أدوات النفوذ التاريخي والجغرافي في عمق آسيا الوسطى والمشرق العربي، ما يؤهّلها للعب دور الضامن الأمني والسياسي ضمن توازنات دقيقة مع روسيا وإيران.

إن تفعيل هذا الدور الوسيط من قبل الرياض وأنقرة، بدعم أميركي، من شأنه أن يُسرّع الخروج من “المساحة الرمادية” التي تعيشها المنطقة منذ ما بعد 2011، والانتقال بها إلى “المساحة الخضراء” التي ينتظرها الجميع: عهد جديد من المصالحة، وإعادة الإعمار، وإنهاء الحروب الباردة، وبناء منظومة مصالح مشتركة تفتح الأبواب أمام مشروع تكامل اقتصادي – سياسي عابر للحدود.

في هذا السياق، تصبح تصفية “حلف الأقليات” وقطع شرايين العمالة الوظيفية ضرورة لا أخلاقية فقط، بل جيوسياسية بالدرجة الأولى، لضمان أمن مستدام، لا يقوم على تفوق طائفة أو ولاء ميليشيا، بل على تقاطعات إقليمية ودولية عقلانية، تجعل من الشرق الأوسط مسرحًا للفرص، لا للانفجارات.


iPublish Development - Top Development Company in Lebanon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى