
كتب عمر بلح لقلم سياسي
في وقت لم ينزلق فيه لبنان رسميًا إلى أي مواجهة عسكرية، ولم يشهد الجنوب اللبناني اشتباكات مباشرة أو تصعيدًا ميدانيًا جديدًا، إلا أن التأثيرات النفسية والاقتصادية لما يجري في الإقليم باتت تضغط بقوة على مفاصل الاقتصاد اللبناني، وبشكل خاص على قطاع السياحة، الذي كان يُعوّل عليه كثيرًا في صيف 2025 لإنعاش الدورة الاقتصادية وتمويل السوق بالعملة الصعبة.
ورغم تطمينات حزب الله بعدم الانجرار إلى حرب جديدة مع إسرائيل، وعدم تكرار سيناريو فتح جبهة الإسناد كما حصل في خريف 2023 دعمًا لغزة، وهي الجبهة التي كلّفت الحزب خسائر غير مسبوقة في قياداته العسكرية، إلا أن حالة القلق الشعبي والمالي مستمرة، وتُترجم ميدانيًا بتراجع كبير في الحجوزات الفندقية، وإلغاء أو تعليق عدد من المهرجانات الصيفية، في ظل تحول بعض شركات الطيران الدولية عن الأجواء اللبنانية تحسبًا لأي طارئ.
هذا القلق، حتى لو لم يُترجم إلى حرب فعلية، يحمل تداعيات اقتصادية بالغة، لأن قطاع السياحة ليس ترفًا في لبنان، بل هو من الأعمدة القليلة التي لا تزال تؤمن تدفقات مالية حقيقية في بلد يعاني من شلل مصرفي، وتضخم مزمن، وانكماش اقتصادي مستمر منذ سنوات. ففي عام 2023 وحده، بلغت إيرادات السياحة أكثر من 5.4 مليار دولار، ما يعادل حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فإن أي انتكاسة في هذا القطاع تعني تراجعًا حتميًا في النشاط الاقتصادي العام، وتفاقمًا في نسب البطالة، وتآكلًا إضافيًا في القدرة الشرائية للأسر.
التقديرات الأولية تشير إلى احتمال تراجع العائدات السياحية هذا الصيف بنسبة تصل إلى 30%، ما يعني خسارة مباشرة تتراوح بين 1.5 و2 مليار دولار من العملة الصعبة، إضافة إلى خسائر غير مباشرة في قطاعات مرتبطة كالنقل، والتغذية، والخدمات، والأنشطة الترفيهية. هذا الانكماش في السوق قد ينعكس على الناتج المحلي بنسبة 2% إضافية هذا العام، ما يعمّق الأزمة الاقتصادية في ظل غياب أي رؤية إصلاحية أو خطط طوارئ حكومية.
اللافت أن هذه الخسائر تحصل من دون أن يطلق لبنان رصاصة واحدة، وهو ما يعكس مدى هشاشة الوضع الاقتصادي، وارتباطه الوثيق بالمناخ الإقليمي. فمجرّد الخوف من حرب، أو إعلان شركات طيران عن تحويل مسارها، كفيلان بإحداث شلل جزئي في أحد أهم القطاعات الحيوية في البلاد.
أكثر ما يهدد لبنان اليوم ليس فقط تراجع السياحة، بل تآكل الثقة. الثقة التي يفترض أن تكون أساس أي حركة اقتصادية، بدأت تتبدد لدى المستثمرين والمغتربين على حد سواء، وحتى لدى المواطنين الذين كانوا يتحضّرون لصيف قد يكون أقل قسوة. وإذا ما استمر هذا المسار، فإن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان منذ 2019 لن تبقى أزمة مالية فحسب، بل قد تتحول إلى أزمة وجودية شاملة، تضرب ما تبقى من ركائز الدولة ومقومات الاستقرار الاجتماعي.
من هنا، فإن التحدي لم يعد موسميًا أو ظرفيًا، بل بات استراتيجيًا. إما أن يثبت لبنان، سياسيًا واقتصاديًا، أنه قادر على تحييد نفسه فعليًا عن نيران الإقليم، وتأمين بيئة عمل واستثمار مستقرة، أو أن يخسر الفرصة الأخيرة لإنقاذ نفسه من دورة الانهيار المستمر.