عربي ودوليمقالات خاصة

دولة الرئيس، هل لمحتَ وجع عكار أم حلَّقتَ فوقه؟

كتبت “قمر رشيد” لقلم سياسي:

دولة الرئيس، أتيتَ بالأمس وحلّقتَ فوق عكار، رأيتَ سهولها الخضراء، جبالها الصامدة، وبحرها الممتد، لكن هل كنتَ ترى ما وراء هذا الجمال؟ هل لاحظتَ معاناة شبابنا الذين يعيشون في جحيم المستقبل المجهول؟ هل شعرتَ بالألم الذي يتنفسه أهالينا، الذين يعانون الفقر والإهمال؟ هل استشعرتَ صرخات الأمهات اللواتي يترقبن أخبار أولادهن الذين اضطروا للهجرة بحثًا عن حياة أفضل لم تُمنح لهم هنا؟ هل رأيتَ أولئك الذين لا يزالون يحملون الأمل في قلوبهم رغم قسوة الواقع، وهم يواصلون الصمود في وجه سنوات من المعاناة والوعود الكاذبة؟

هل شاهدتَ صور شهداء عكار المعلقة على الجدران، التي تشهد على تضحياتهم؟ هل رأيتَ أمهات هؤلاء الشهداء، اللواتي لا زلن يحملن وجع الفقد، وهن يبكين أبناءهن الذين قدّموا دماءهم فداءً للوطن، ثم تُركت تضحياتهم طيّ النسيان؟ فعكار ليست فقط خزان الجيش، بل خزان الوفاء والعطاء… لكن من ينصفنا؟ من يرفع صوتنا في وجه هذا الصمت المطبق؟

هل سمعتَ أنين طفلٍ يرتجف بردًا في بيتٍ بلا سقف، لا يقيه قسوة الشتاء؟ هل استنشقتَ هواءً أثقلته روائح النفايات المتكدّسة في القرى المنسية؟ هل رأيتَ عيون الشباب المثقلة بالعجز، التائهة بين حلمٍ يضيق به الوطن، وفرصةٍ لم تولد يومًا؟ يبحثون عن عملٍ فلا يجدون، عن جامعةٍ تضمهم فلا تُبنى، عن مستشفى يداويهم فلا يفتح لهم أبوابه؟

فكم من غارةٍ وانفجارٍ مرّا، فاستشهد أبناؤنا بين النيران، لا لأن العدو كان أقوى، بل لأن وطنهم كان أضعف! ماتوا على أبواب المستشفيات التي لم تمنحهم حتى سريرًا يلفظون عليه أنفاسهم الأخيرة بكرامة. ولسوء الحظ، لم يكن العدو الوحيد من أسقطهم، بل كان هناك عدو آخر داخلي، أولئك الذين تفرغوا لتجاهل وجعنا وأهملوا معاناتنا، نوابنا الذين لم يشعروا بألمنا، بل غرقوا في قيلولة ضمير، لا يهزّهم وجعنا ولا تشغلهم معاناتنا. هم يعيشون في رفاهيةٍ لا تُزعجها آلامنا، بينما نحن نكابد كل يوم على طرقٍ مدمّرة، نواجه المصاعب بكل صمتٍ ومرارة، منتظرين فرجًا بات حلُمًا بعيدًا.

حلّقتَ فوق عكار، لكن هل دقّقتَ النظر في طرقاتها المحفّرة، في الجور التي تبتلع السيارات والمارة وكأنها أفخاخ للفقراء؟ هل لاحظتَ الطرق التي وُعدنا بإصلاحها منذ سنوات، لكنها ما زالت شاهدة على الإهمال، تئن بصمت تحت أقدامنا؟

هذه الحفر ليست مجرد فجوات في الإسفلت، بل ندوب محفورة في ذاكرة المنطقة، تذكّرنا في كل خطوة أننا خارج حسابات الدولة، وأن الوعود التي تلقيناها لم تكن سوى كلمات تتلاشى في الهواء.

دولة الرئيس، الطرق التي مررتَ فوقها، نحن نعبرها كل يوم، نواجه خطرها، وننزف معها، وننتظر بصيص أمل حقيقي، لا شعارات ووعودًا خاوية. فهل رأيتَ ما نراه؟

عكار، الأرض التي قدّمت رجالها قرابين للوطن، لكنها لم تنل منه سوى الجحود. سالت دماء أبنائها دفاعًا عن أرض لم تنصفهم يومًا، وضحّوا بأرواحهم ليحيا وطنٌ لم يمنحهم حتى الحياة الكريمة. وحين عادوا، عادوا شهداء، تُزيّن صورهم الجدران، بينما أمهاتهم يقبعن في زوايا النسيان، ينتظرن كلمة إنصاف، لمسة تقدير، أو حتى التفاتة تُخفف عنهن بعضًا من وجع الفقد.

أما من بقي من أبنائنا، فبينهم من حُكم عليه بالهجرة بحثًا عن علم لم يجده هنا، أو عمل يسد رمقه، وبينهم من ظلّ يصارع ظلمًا مزدوجًا، ظلم الحرمان، وظلم الإهمال. شبابٌ حُرموا من أبسط حقوقهم، من جامعة تُنير مستقبلهم، من مستشفيات تحمي أرواحهم، من مطارٍ كان حلمًا لكل العكاريين، ليبقى لهم خيار العيش في أرضهم بدلًا من أن يكون الرحيل هو السبيل الوحيد. لكنّه اليوم يقف مهجورًا، وأهله ما زالوا ينتظرون بصيص أملٍ في إعادة تشغيله، علّه يعيد لعكار بعضًا من حقها المفقود. وقد ذكرته في بيانك الوزاري، ليصبح بذلك بصيص أملٍ للعكاريين بعد سنواتٍ من التهميش. فهل ستترجم هذه الكلمات إلى أفعالٍ تعيد للمطار دوره، ولأبناء عكار حقهم في فرصٍ طال انتظارها؟

فعكار لم تبخل يومًا على الوطن، فمتى يكفّ الوطن عن بخله عليها؟

دولة الرئيس، عكار سئمت الوعود، ولم تعد بحاجة إلى كلمات، بل إلى أفعال تعيد إليها الحياة، إلى خطوات حقيقية تمنح أبناءها الأمل الذي طال انتظاره. فهل ستكون مختلفًا عمّن سبقوك؟ هل ستكسر دائرة الإهمال التي حاصرت هذه الأرض لعقود؟

عكار لا تحتاج إلى طائرة تحلق فوقها، بل إلى دولة تسير في شوارعها، تلمس معاناتها، ترى وجعها كما هو، لا كما يبدو من علوّ السماء.

دولة الرئيس، أعذر قسوتي وأعذر لومي، لكنني عكارية، ووجعي أعمق من أن يُحكى. سنوات طويلة ونحن ندور في نفس الدوامة، محرومون، منسيون، محكومون بالفقر والتجاهل. هذا الواقع جعلنا نعيش حقدًا على طبقة لم ترَ فينا سوى أصوات في صناديق الاقتراع، وجنودًا في المعارك. ولكن رغم كل شيء، لا زلنا نأمل أن يكون بينكم من يريد أن يُصلح، أن يُنصف، أن يعوّض عن سنين من الظلم والخذلان.

لا نريد لأطفالنا أن يكبروا في نفس الألم الذي عانيناه، ولا أن يرثوا وطنًا لم يحتضننا يومًا. فهل ستفعلون ما عجز عنه من سبقكم؟ هل ستجعلون عكار أخيرًا جزءًا من هذا الوطن، لا بقعة منسيّة على هامشه؟

نحن هنا، ننتظر أن يعود إلينا الوطن كما لم نخذله يومًا… فمتى يعود لبنان إلينا؟


iPublish Development - Top Development Company in Lebanon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى