مقالات خاصة

نصر الله و”الاسناد”.. من اقتحام الجليل إلى خسارة الجنوب.

كتب الصحافي ” جلال قبطان” لقلم سياسي:

حرب غزة انتهت، وقبلها بأشهر طويت صفحة “إسناد” لبناني انتهت بكارثة حقيقية على كافة الصعد الاجتماعية والاقتصادية وحجم الخسائر البشرية، هذا اذا وضعنا النتائج على ميزان الربح والخسارة عقب تنظيفها من رواسب شعارات الانتصار والصمود والتضحية وغيرها.

لكن بعيدا عن نقاش الانتصار والهزيمة المعتاد عقب كل جولة عنف في المنطقة، الحدث الابرز في هذه الحلقة كان أمين عام حزب الله حسن نصر الله وصورته التي لم تشبه أي من الوجوه التي عرفها مناصروه في مراحل توليه الأمانة العامة.

الأمر لا يحتاج إلى خبير بلغة الجسد أو محلل استراتيجي عميق لاكتشاف حجم الانهيار في أداء الرجل منذ الثامن من اكتوبر عام 2023 عقب “طوفان الأقصى” إلى حين اختفاءه عن الشاشة وحتى لحظة إعلان اغتياله في السابع والعشرين من سبتمبر عام 2024، لتطوى معه صفحة هي الابرز في تاريخ حزب الله.

جميعنا نذكر اداء نصرالله القوي، الواثق، والمتوعد في كافة المراحل المفصلية التي مرت على المنطقة من تحرير الجنوب عام ألفين وخطاب “اوهن من بيت العنكبوت” الشهير، إلى اجتياح بيروت في “اليوم المجيد” بالسابع من أيار عام 2007 وتهديده بـ “قطع يد ونزع روح” من يفكر بالمساس بسلاح حزب الله، وصولا إلى المفاخرة بالانخراط في الحرب السورية للدفاع عن النظام السابق والاستعداد إلى أن “أذهب أنا (نصرالله) وكل حزب الله إلى سوريا” لأجل هذا الهدف، مرورا بعدة محطات محلية من قمع ثورة تشرين إلى تعطيل البلد لتنصيب حليفه ميشال عون رئيسا وغيرها من الاحداث التي تعامل معها نصرالله برفع الاصبع ولعب دور الوصي الشرعي على البلد.

قرار فتح جبهة “اسناد غزة” بدأ بسيناريو مشابه لما سبق، لغة واثقة وتهديد ووعيد وإملاء شروط على العدو كما جرت العادة. القرار السريع الذي اتخذه نصرالله مرده اعتقاده كما الكثيرين أن هذه الجولة من العنف ستكون قاسية لكنها قصيرة وتنتهي بسيناريو تفاوضي حول الأسرى.

نصر الله قد يكون اعتمد على قدرته المعتادة باقناع جمهوره تحمل ثمن جبهة الاسناد، لكن في نفس الوقت المكاسب التي سيتحصل عليها حزب الله ستكون أكبر من الأثمان. أولا، سينصب نفسه الحاضن الأول للقضية الفلسطينية بعد تزايد التساؤلات حول جدية الحزب في هذا الملف وتلميحاته السابقة بـ “تحرير الجليل”. ثانيا، سيعزز من هيمنته على الساحة اللبنانية الداخلية من موقع القوي القادر على مقارعة أعتى الجيوش. وأخيرا، توجيه صفعة استباقية لاسرائيل مستغلا انشغالها في حرب طاحنة داخل شوارع قطاع غزة.

أشهر مرت على حرب الإسناد بدا فيها جليا أن حسابات حقل نصرالله لم تطابق حسابات بيدر المعارك، واصطدامه بتغيّر العقلية الاسرائيلية التي لم تعد تخاف من حجم الخسائر البشرية المرتفع، إلى جانب استعدادها الواضح لخوض معارك طويلة الأمد على عكس كافة حروبها السابقة. هذا دون تجاهل علو الكعب الاستخباراتي والتكنولوجي الفاضح من خلال الاستهدافات الدقيقة لعناصر الحزب على مدار الساعة وفي كافة الأماكن. هذه العوامل جعلت السحر ينقلب على الساحر وينتقل حزب الله من خانة المستنزِف إلى المستنزَف.

مع مرور الأيام بدأ خطاب نصر الله يتحول من نظرية “عاموديا وأفقيا” إلى التهدئة المبطنة والترويج أن جبهة الاسناد محدودة وأن حزبه غير معني بحرب شاملة. ويبدو أن تغير الخطاب جاء بعد الخرق الاستخباراتي الكبير الذي بدأ بالظهور تدريجيا في عقر دار حزب الله من خلال اغتيال “الضيف” الحمساوي القيادي صالح العاروري يليه فؤاد شكر القائد العسكري الأرفع في حزب الله.

كرة ثلج الاغتيالات بدأت تتدحرج سريعا، وهو ما أعطى مؤشر واضح على حجم الانكشاف الأمني لهيكلية حزب الله، انكشاف توجه الاحتلال بعملية تفجير “البيجرات” وإخراج قرابة خمسة آلاف عنصر من الخدمة بضربة واحدة.

أطل نصر الله للمرة الأخيرة عقب هجوم “البيجرات”، لغة جسده وصوته كشفت حجم الانهيار الذي أصاب منظمته في الصميم، إلا أن الرجل عمد إلى التقليل ما أهمية الحدث، بل وذهب في خطابه إلى توعد المشاهدين بإطلالة قادمة يفند فيها قائمة “الانجازات” التي تحققت خلال عام من حرب الإسناد.

يقول المؤرخون أن القائد النازي أدولف هتلر قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع انهيار الجيش الالماني تقريبا على كافة الجبهات، واقتراب الحلفاء من مشارف العاصمة برلين كان هتلر خلال اجتماعه الاخير مع قادة اركانه يطالبهم بفتح جبهات جديدة، متحدثا بلغة المنتصر ومنسلخا عن الواقع بشكل كلي. انتهى هتلر بعدها منتحرا بعد أن رأى بعينيه جيشه الذي احتل غالبية أوروبا غير قادر على الدفاع عن العاصمة.

ذكر هذا التفصيل ليس بهدف الربط مع طريقة موت نصر الله، انما للإشارة إلى حجم الإنكار الذي يصيب بعض القادة عند انهيار امبراطورياتهم، وهو ما حصل مع نصر الله الذي كسرت منظومته الأمنية أمام عينيه، لكنه بالمقابل بدلا من التعامل ببراغماتية مع هذه الانهيارات وتقديره أن اللعبة انتهت والحفاظ على ما تبقى من سطوته، فضّل عدم تصديق ما يجري حوله والإصرار على أنه وحده من يمسك خيوط اللعبة والقادر على التحكم بمسار الحرب.

الانهيار الذي لم يصدقه نصر الله كان أسرع مما يتوقعه أحد، حيث تم اغتيال الصف الأول من قادة فرقة الرضوان في ضربة واحدة بعدها بأيام، قبل أن يتم اغتيال نصر الله شخصيا، ونائبه ونائب نائبه في ضربات متلاحقة واجتياح اسرائيل لكافة الخطوط الحمر التي ظن حزب الله أنه نجح بتثبيتها من خلال سلاحه.

رحل نصر الله ولم يطل على جمهوره الذي لا يزال ينتظر منه إخباره تفنيد كيف يمكن لضرب عامود تجسس هنا أو إطلاق طائرة مسيرة هناك أن يردع آلة حرب همجية تحرق كل ما يقف في طريقها.

رحل نصر الله واكتشف مناصروه بأم العين من خلال اتفاقية وقف إطلاق النار الاستسلامية أن معادلة الردع وصورة حزب الله القوي واللاعب الإقليمي لم تكن أكثر من هالة صنعتها خطابات رنانة وشعارات حماسية رحلت مع سيدها.

رحل نصر الله ولم يتحرر الجليل، بل عادت دبابات الاحتلال إلى العبث والتدمير في قرى الجنوب دون حسيب أو رقيب.


iPublish Development - Top Development Company in Lebanon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى