نماذج عُلمائية ملهمة محمد بن إدريس الشافعي “فقيه السنة الأكبر”
كتب الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فضيلة الشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إنه الإمام العالم العامل، ذو الشرف المنيف والخلق الظريف، السخي الكريم، وهو ضياء العلم في ظلمة الجهل، أوضح المشكلات وأفصح عن المعضلات، هو المنتشر علمه شرقاً وغرباً، والمستفيض مذهبه براً وبحراً، المتبع للسنن والآثار، المقتدي بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، اقتبس عن الأئمة الأخيار فحدّث عنه الأئمة الأحبار، الحجازي المطّلبي أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.
أولاً: اسمه ونسبه ومولده:
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبید بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، أبو عبد الله القرشي الشافعي المكي؛ نسيب رسول الله له وابن عمه، ولد كما اتفق المؤرخون عام (150هـ) في غزة، وقيل بعسقلان، وهو العام الذي توفى فيه أبو حنيفة (رحمه الله) (منهج الإمام الشافعي، د. محمد العقيل، ص19)، وأمه أزدية، ويلقب (رحمه الله) بناصر الحديث، وذلك لما اشتهر عنه من نصرته للحديث، وحرصه على اتباعه.
ثانياً: نشأته وطلبه للعلم:
قال الشافعي: كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم وقد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة، وكانت دارنا في شعب الخيف، فكنت أكتب في العظم، فإذا كثر طرحته في جرة عظيمة.
وقد واظب الإمام الشافعي على طلب العلم، فحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: ابن ثماني عشرة، أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي، وعني بالشعر واللغة، وحفظ شعر الهذليين، وأقام عندهم نحواً من عشر سنين، وقيل عشرين سنة، فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها، وسمع الكثير من الحديث على جماعة المشايخ والأئمة، وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته، وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه عن مسلم بن خالد الزنجي، وروى عن خلق كثير، وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين عن شبل عن ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن حفظ القرآن رحل إلى هذيل ومنازلها في أطراف مكة، ثم بعد أن حفظ أشعارهم ولغتهم حول همته إلى الفقه، وتتلمذ على مفتي مكة مسلم بن خالد الزنجي، فلما أتقن ما عنده؛ رحل رحلته الأولى إلى المدينة.
ثالثاً: علمه:
منذ كان في السابعة من عمره (رحمه الله) حفظ القرآن إلى أن وافته منيته، وكان زاهداً في كل شيء من متاع الدنيا، ومقبلاً بوجوده كله، بجسمه وروحه وعقله وذكائه على العلم والعمل به.
ويقول (رحمه الله) في ثمرة إدراك العلم بأحكام الله والعمل بما علم: “فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه: نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب ونوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة”.
- القرآن وعلومه:
حفظ الشافعي (رحمه الله) كتاب الله وفهمه، وعكف على معرفة علومه والغوص على دقائقه. ومن المستحيل أن يفهم أحد القرآن فهماً صحيحاً إلا بإتقان لغة العرب، وفهم أسرارها بمفرداتها وأساليبها، ولهجات قبائلها وتذوق بلاغتها. فرحل إلى البادية، فعاش في قبيلة هذيل – وكانت أفصح العرب – نحواً من سبع عشر سنة يرحل برحيلها ويقيم بإقامتها، ويسمع كلامها ويحفظ شعرها، مما سهل عليه كثيراً أن يستوعب معاني القرآن ويفهم مقاصده، وصار في ذلك مرجعاً وحجة.
هذه الملكة في العربية جعلت فهمه لكتاب الله كأنه شهد التنزيل، يقول يونس بن عبد الأعلى: «كنت أولاً أجالس أصحاب التفسير وأناظر عليه، وكان الشافعي إذا ذكر التفسير كأنه شهد التنزيل (توالي التأسيس، ابن حجر، ص58). ولهذا كان شيخه في الحديث سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا، التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا. (الانتقاء، ابن عبد البر، ص70). وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت أحداً أقدر على انتزاع المعاني من القرآن والاستشهاد على ذلك من اللغة من الشافعي.
- علم الحديث:
لم يبلغ الشافعي العاشرة من عمرة حين أمَّ الحرم المكي، يحضر مجلس شيخ الحرم محدث مكة الأكبر، سفيان بن عيينة، وكان حينذاك يكتب ما يسمعه على العظام وكرب النخل، وظهور أوراق الدواوين لشدة فاقته، ثم حفظ الموطأ، ورحل إلى مالك في سن مبكرة لم تتجاوز الثالثة عشرة على قول كثير من الرواة، ولبث في المدينة حتى وفاة مالك (رحمه الله) فكتب حديثه وحديث غيره من الشيوخ، وحفظ كثيراً من أقوال الصحابة وفتاواهم، كما أتقن فقه أهل المدينة.
لقد كان حظ الشافعي من الحديث كبيراً، وحفظه له لا يباريه فيه إلا أهل الصناعة فيه. يقول ابن حجر: “كان الشافعي مكثراً من الحديث، ولم يكثر من الشيوخ كعادة أهل الحديث، لإقباله على الاشتغال بالفقه حتى حصل منه ما حصل” (توالي التأسيس، مرجع سابق، ص 53). ويقول ابن حجر: ” وكان معظم أحاديث الأحكام حاصلة عنده، لا يشد منها إلا النادر”.
وقال أحمد بن حنبل: و”كان – أي الشافعي – أفقه الناس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله، ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث. وعن المزني: سمعت الشافعي يقول: إني كنت لأسير الليالي في طلب الحديث الواحد”.
ولم يكن (رحمه الله) في طلبه للحديث حاطب ليل؛ يحرص على جمعه صحيحاً كان أو ضعيفاً، إنما كان دأبه أن يظفر بالأحاديث الصحيحة. يقول أحمد بن حنبل: قال لي الشافعي: “إذا صحّ الحديث فقل لي: أذهب إليه، حجازياً كان أو عراقياً، شامياً كان أو مصرياً”.
- فقه الشافعي:
إن الشافعي (رحمه الله) اجتهد فأصل الأصول وقعّد القواعد، وخرج على الناس بمدرسة ثالثة، هي بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي: أي أنه تمسك بصحيح السنة واستعملها، ولم يهمل صحيح القياس الذي هو فرع للنص، وأوضح ما يشير إلى ذلك كلمة الإمام أحمد بن حنبل حيث يقول فيها: “ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا”.
كما أجمع العلماء والفقهاء أن أول من ابتدع علم الأصول الشافعي (رحمه الله). قال الفخر الرازي: كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع.
وقال محمد بن مسلم بن وارة: لما قدمت من مصر، أتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه فقال لي: كتبت كتب الشافعي؟ فقلت: لا، فقال لي: «فرطت! ما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ حديث رسول الله ﷺ من منسوخه، حتى جالسنا الشافعي.
وهذا يؤكد أن الشافعي واضع أصول الفقه عامة، لأن ذلك بالنسبة إلى مذهبه خاصة، وأنه أول من أنشأ هذا العلم وابتدعه، وما من أحد ألف في هذا العلم بعده إلا وهو عالة عليه.
رابعاً: ثناء العلماء على الإمام:
قال الفضل بن دكين: “ما رأينا ولا سمعنا أكمل عقلاً، ولا أحضر فهماً، ولا أجمع علماً من الشافعي” (توالي التأسيس، مرجع سابق، ص59).
وقال أبو ثور: “من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته، ومعرفته وثباته وتمكنه، فقد كذب، كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه”. (وفيات الأعيان، ابن خلكان، ج1 ص566).
وقال شيخه سفيان بن عيينة – وقد قرأ عليه حديث في الرقائق فغشي على الشافعي-فقيل قد مات الشافعي: “إن كان قد مات؛ فقد مات أفضل أهل زمانه”.
وقال أبو منصور الأزهري: “عكفت على المؤلفات التي ألفها فقهاء الأمصار، فألقيت الشافعي أغزرهم علماً، وأفصحهم لساناً، وأوسعهم خاطراً”. (توالي التأسيس، مرجع سابق، ص62)
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: “ما رأيت أحداً أعقل ولا أورع، ولا أفصح ولا أنبل رأياً من الشافعي. وقال أيضاً: “ما رأيت رجلاً قط أكمل من الشافعي”.
وقال أحمد بن حنبل: “ما تكلم في العلم أقل خطأ، ولا أشد أخذاً بسنة النبي له من الشافعي”. وقال أيضاً – وذكر الشافعي -: ما رأيت أفصح منه ولا أفهم للعلوم منه”.
خامساً: مرضه ووفاته:
ظهرت علة البواسير في الشافعي (رحمه الله) وهو بمصر، وبسبب هذه العلة ما انقطع عنه النزيف، وربما ركب فسال الدم من عقبيه. فالنزيف أنهكه وأعنته، قال يونس بن عبد الأعلى: “ما رأيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي”. ولما ألح عليه المرض، وتخوفه النزيف، وأذابه السقم ووقف الموت ببابه ينتظر انتهاء الأجل، بكى وأنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سُلَّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما
وتوفي الشافعي (رحمه الله) ليلة الجمعة بعد العشاء، آخر يوم من رجب، فحمل على الأعناق من فسطاط مصر حتى مقبرة بني زهرة، وتعرف أيضاً بتربة ابن عبد الحكم، ودفن يوم الجمعة، سنة أربع ومائتين، وهو ابن (58) سنة.