مقالات خاصة

الفوضى البنَّاءة‬⁩ كإستراتيجية: واشنطن وفضيحة ⁧‫إيران_كونترا‬⁩

كتب د. طالب عبد الجبار الدغيم لقلم سياسي

‏”الفوضى البنَّاءة” أو “الهدم الخلّاق” من المفاهيم المثيرة للجدل التي أَطلقها المؤرخ الأمريكي تاير ماهان في مطلع القرن العشرين (1902م)، إلا أن المستشار السابق للأمن القومي والمؤرخ اليهودي الأمريكي مايكل ليدين Michael Ledeen، قد أعطى للمفهوم بُعدًا جديدًا في أواخر القرن العشرين.
‏ويُشير هذا المفهوم إلى إستراتيجيات تعتمد على هدم وتدمير كل ما هو قائم، ومن ثم إعادة بنائه بما يخدم إرادة الفاعلين الكبار، وتفسيره الأكثر وضوحاً، بأنه عندما يصل مجتمع ما إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف اللامتناهي، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف لدى الجماهير، فإنَّه يُصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة، وبظروف مريحة تُناسب رغبات المتنفذين في صراع ما.
‏وقد طرح المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون فكرة “فجوة الاستقرار”، التي تفيد بأن الفوضى العارمة، والعنف الشديد قد يؤديان إلى خلق بيئة تسمح بإعادة تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية.

‏وتُعبر السياسة الخارجية الأمريكية عن هذا المفهوم من خلال تنفيذ إستراتيجيات عدة في دول مختلفة خلال الحرب الباردة، وبعد استفرادها بقيادة العالم إثر انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد تجلى ذلك بوضوح عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، والغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003، حيث قامت واشنطن بتفكيك الهياكل الأساسية للدولة العراقية تحت شعار خلق واقع جديد يتماشى مع مصالحها.
‏ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي فضيحة إيران كونترا؟ وما مدى ارتباطها بالسياسة الأمريكية في العالم؟

‏فضيحة إيران كونترا
‏من أبرز الأمثلة على تطبيق الفوضى الأمريكية “البنّاءة” خلال فترة الحرب الباردة هي فضيحة “إيران كونترا”، والتي وقعت في الثمانينيات خلال إدارة الرئيس رونالد ريغان. تتعلق هذه الفضيحة بعمليات سرية قامت بها الإدارة الأمريكية لدعم الجماعات المعارضة في نيكاراغوا.

  • خلفية الفضيحة:
    ‏في أوائل الثمانينيات، كانت نيكاراغوا مسرحًا لحرب أهلية بين حكومة الساندينيستا اليسارية وجماعات “كونترا” المسلحة. سعت إدارة ريغان لدعم “كونترا” في محاولة للإطاحة بالحكومة اليسارية. ولكن في عام 1984، حظر الكونغرس الأمريكي تقديم أي دعم عسكري لـ “كونترا”، مما دفع الإدارة للبحث عن وسائل بديلة لتمويلهم.

‏- عملية إيران-كونترا:
‏خلال الحرب الإيرانية-العراقية، قامت إدارة ريغان ببيع أسلحة لإيران رغم الحظر المفروض عليها، في خطوة جريئة تهدف إلى استغلال الأوضاع المتوترة. وكما أشارت عدة تقارير إلى أن إسرائيل قد ساهمت في دعم إيران عبر وسطاء، حيث استُخدمت هذه الصفقة كوسيلة لإطلاق سراح رهائن أمريكيين في لبنان. وكانت الأموال الناتجة عن هذه الصفقة تُستخدم سراً لتمويل “كونترا”، مما اعتُبر انتهاكًا صارخًا لقوانين الكونغرس.

‏- الكشف عن الفضيحة:
‏في عام 1986، تم الكشف عن هذه العمليات السرية، مما أثار موجة من الغضب في الولايات المتحدة الأمريكية. وأدت الفضيحة إلى تحقيقات مكثفة من قبل الكونغرس ووزارة العدل، حيث تم التركيز على دور عدد من المسؤولين في الإدارة، مثل وزير الدفاع السابق كاسبر واينبرجر ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ويليام كيسي.

‏- النتائج:
‏أسفرت الفضيحة عن محاكمات لعدد من المسؤولين، حيث وُجهت لهم تهم متعددة، وتم إدانتهم في بعض الحالات. ومع ذلك، منح الرئيس جورج بوش الأب العفو لعدد من المتورطين بعد فترة من الزمن. كما أثارت الفضيحة جدلاً واسعًا حول الأخلاقيات في السياسة الخارجية الأمريكية، وأثارت تساؤلات عن كيفية اتخاذ قرارات السياسة الخارجية وتوجيه الأموال في إطار قوانين الكونغرس.

‏- التأثيرات:
‏تركت فضيحة “إيران كونترا” آثارًا طويلة الأمد على السياسة الأمريكية، حيث زادت من التدقيق في الأنشطة السرية لوكالات الاستخبارات، وأكدت على ضرورة الشفافية في اتخاذ القرارات السياسية.

‏وحتى اليوم، تُعد الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر قوة بين دول العالم، حيث تمتلك أكثر من 820 قاعدة عسكرية حول العالم، و6 أساطيل بحرية في البحار والمحيطات. وميزانية عسكرية سنوية قُدرت عام 2023م بأنها الأكبر في تاريخ الإنسانية بنحو 735 مليار دولار أمريكي أي ما يعادل تمويل جيوش 135 دولة في العالم، وتمويل مراكز لدراسات المناطق والأبحاث الإستراتيجية بنحو 482 مليار دولار سنوياً (تعادل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل)، عدا عن عقد سلسلة ضخمة من التحالفات الدولية مع أكثر من 100 دولة.. وهذه الحالة، تُظهر قدرة واشنطن الفائقة على إدارة الصراعات العالمية، مما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في التنافس على إدارة العالم خلال القرن الحالي…


iPublish Development - Top Development Company in Lebanon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى