موازنة 2025: حلول مؤقّتة… مخاطرها كبيرة لاحقاً
في الآتي استعراض للتحدّيات التي تشهدها موازنة عام 2025، واقتراحات حول السبل الفضلى لتحويلها إلى فرصة تساهم في إعادة بناء اقتصاد لبنان، بدلاً من الاستمرار في النهج السابق الذي أوصل إلى الكارثة، وبدلاً من الركون إلى حلول مؤقّتة تنفجر في وجه اللبنانيين لاحقاً.
منذ بداية الأزمة الاقتصادية في عام 2019، شهد لبنان تدهوراً غير مسبوق في أوضاعه الاقتصادية والمالية، حيث انخفضت قيمة الليرة اللبنانية بشكل حادّ، وهو ما أدّى إلى فقدان الثقة بالنظام المصرفي. تسبّب هذا الانهيار بشلل في القطاعات الحيوية في البلاد، بما في ذلك التجارة والصناعة والخدمات العامة. كما ساهمت الأزمة السياسية، التي تفاقمت بسبب غياب الإصلاحات، في تفاقم التدهور المالي، فأدّت إلى تفاقم الفقر والبطالة، وفقدان الطبقة الوسطى لقوّتها الاقتصادية. علاوة على ذلك، فإنّ تراجع التدفّقات النقدية من الخارج وغياب الدعم الدولي المستمرّ يضعان النظام المالي اللبناني تحت ضغط هائل، وهو ما جعل الدولة غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية، بما في ذلك خدمة الدين العام. أمام هذا الوضع، تحوّلت التوقّعات إلى موازنة 2025 باعتبارها إحدى الآليّات القليلة المتاحة لمحاولة وقف هذا التدهور.
أهمّيّة موازنة 2025
تشكّل موازنة 2025 تحدّياً كبيراً للحكومة اللبنانية، لأنّه يتعيّن عليها مواجهة مجموعة من القضايا الحاسمة. على رأس هذه القضايا تأتي معالجة الدين العام الذي يشكّل أحد أكبر المعوّقات أمام استعادة الاستقرار الاقتصادي، إذ يفوق الدين العام نسبة 150% من الناتج المحلّي الإجمالي. كما يجب أن تركّز الموازنة على ضبط الإنفاق الحكومي من خلال إعادة هيكلة القطاع العام ومحاربة الفساد المستشري. إضافة إلى ذلك، هناك حاجة ملحّة إلى اتّخاذ إجراءات فوريّة للحدّ من التضخّم الذي أضرّ بالقدرة الشرائية للمواطنين، والتخفيف من الضغوط الاجتماعية التي فرضتها الأزمات المالية، مثل ارتفاع نسبة البطالة والفقر. يجب أن تأخذ موازنة 2025 في الاعتبار القدرة المحدودة للدولة على جمع إيرادات، والتحدّيات المتعلّقة بإعادة بناء الثقة المحلّية والدولية في الاقتصاد اللبناني، وهو ما يتطلّب خطوات جدّية لإصلاح المالية العامّة وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من قبل المجتمع الدولي.
ما هي تحدّيات موازنة 2025؟
ليست موازنة 2025 مجرّد خطّة ماليّة سنوية أخرى، بل تعتبر وثيقة محورية لتعافي لبنان الاقتصادي واستعادة الثقة بالدولة. تواجه هذه الموازنة العديد من التحدّيات التي تجعل من وضعها وتنفيذها أمراً حاسماً:
1- إعادة هيكلة الدين العامّ: يعدّ الدين العامّ اللبناني واحداً من أكبر العوائق أمام النموّ الاقتصادي. ومع توقّف لبنان عن سداد ديونه السيادية منذ آذار 2020، بات من الضروري وضع خطّة لإعادة هيكلة هذا الدين بطريقة توازن بين الالتزامات المالية والقدرة على النموّ. يجب أن تتضمّن موازنة 2025 خطوات جريئة لإدارة الدين العامّ، بما في ذلك تقليص العجز الماليّ، وإعادة التفاوض مع الدائنين، وتنفيذ إصلاحات هيكلية تهدف إلى تحقيق نموّ اقتصادي مستدام.
2- التحفيز الاقتصادي: في ظلّ الانكماش الاقتصادي المستمرّ، يتعيّن على موازنة 2025 تقديم حلول لتحفيز النموّ من خلال زيادة الإنفاق الاستثماري في القطاعات الأساسية مثل البنية التحتية، والزراعة، والطاقة المتجدّدة. يمكن أن يسهم التركيز على هذه القطاعات في خلق فرص عمل وتحسين القدرة الإنتاجية للبلاد، وهو ما يساعد في انتشال لبنان من حالة الركود العميق.
3- ضبط الإنفاق الحكوميّ ومحاربة الفساد: يعتبر الإصلاح المالي جزءاً لا يتجزّأ من أيّ موازنة تهدف إلى معالجة التحدّيات الهيكلية في لبنان. أحد الجوانب الأساسية التي يجب أن تركّز عليها موازنة 2025 هو ضبط الإنفاق العامّ الذي يعاني من سوء الإدارة والهدر. يجب أن تشمل هذه الموازنة آليّات صارمة لمراقبة الإنفاق الحكومي، وخططاً واضحة لإصلاح القطاع العامّ الذي يعاني من تضخّم في القوى العاملة والفساد المستشري. تقليص النفقات غير الضرورية وزيادة كفاءة الخدمات العامّة يعتبران من العناصر الضرورية لتحقيق استقرار ماليّ مستدام.
4- الإصلاحات الضريبية: يُعتبر النظام الضريبي الحالي في لبنان غير فعّال ويعاني من ثغرات تؤدّي إلى تهرّب ضريبي واسع النطاق. يجب أن تشمل موازنة 2025 إصلاحات تهدف إلى توسيع القاعدة الضريبية وزيادة الإيرادات من خلال تحسين آليّات تحصيل الضرائب وتقليل التهرّب الضريبي. تنفيذ نظام ضريبي أكثر عدالة وفعّالية سيساعد على زيادة الإيرادات المالية دون فرض ضغوط إضافية على الشرائح الأكثر فقراً في المجتمع.
مراعاة الدّاخل والخارج
5- التعامل مع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية: موازنة 2025 لا يمكن أن تتجاهل الضغوط الاجتماعية التي يواجهها لبنان. مثل ارتفاع معدّلات البطالة، خاصة بين الشباب، وزيادة معدّلات الفقر. لذلك يجب أن تتضمّن الموازنة برامج اجتماعية تهدف إلى حماية الفئات الأكثر ضعفاً، وتحسين التعليم والصحّة، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي. وسيسهم التركيز على تحسين هذه الجوانب في استعادة بعض الثقة لدى المواطنين المتأثّرين بشدّة بالأزمة الاقتصادية.
6- التزام بالإصلاحات المطلوبة دولياً: دعم المجتمع الدولي، بما في ذلك المؤسّسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، يعدّ شرطاً أساسياً للحصول على المساعدات المالية التي يحتاج إليها لبنان بشدّة. لذلك يجب أن تتضمّن موازنة 2025 إصلاحات مالية وهيكلية محدّدة، بما يتماشى مع متطلّبات المجتمع الدولي، لتحقيق استقرار اقتصادي مستدام. قد تشمل هذه الإصلاحات تحسين الشفافية المالية، وتعزيز استقلالية القضاء، وضمان المحاسبة في إدارة المال العامّ.
في الخلاصة، تمثّل موازنة 2025 فرصة ذهبية للبدء بوضع لبنان على مسار التعافي. تطبيق موازنة شاملة ومتوازنة من شأنه أن يعيد الثقة إلى النظام المالي اللبناني، ويعزّز العلاقات مع المجتمع الدولي، ويساعد على تخفيف معاناة المواطنين المتضرّرين من الأزمة. لكنّ النجاح يتطلّب إرادة سياسية قويّة، وتنفيذاً جادّاً للإصلاحات المطلوبة.
لماذا تغيب الإصلاحات الجذريّة؟
غياب الإصلاحات الهيكلية في مشروع موازنة 2025 يعدّ أبرز انتقاد يوجّه إلى هذا المشروع لأنّه لا يتضمّن أيّ خطط واضحة لإصلاح قطاع الكهرباء الذي يستنزف جزءاً كبيراً من الإنفاق العامّ، حيث يعتبر قطاع الكهرباء من أكبر التحدّيات التي واجهت لبنان على مدار العقود الماضية. ويظلّ القطاع يعتمد على سلف الخزينة لتمويل عجزه، مؤدّياً إلى زيادة الأعباء المالية على الدولة، بالإضافة إلى ذلك لا يقدّم المشروع حلولاً لتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، وهو ما يتطلّب تحسين آليّات الرقابة على الإنفاق العامّ.
لم تشمل الموازنة أيّ بنود تتعلّق بإعادة هيكلة القطاع العام أو ضبط الإنفاق على الرواتب والأجور، على الرغم من أنّ كتلة الأجور تشكّل جزءاً كبيراً من النفقات العامة. كما أنّ عدم إدخال أيّ تعديلات جوهرية في النظام الضريبي يُعدّ إغفالاً واضحاً للإصلاحات الضريبية المطلوبة.
مشكلة التّضخّم والضّرائب
تركّز موازنة 2025 بشكل كبير على زيادة الإيرادات من خلال فرض الضرائب، سواء كانت مباشرة مثل ضريبة الدخل أو غير مباشرة مثل ضريبة القيمة المضافة. ومع ذلك، يأتي هذا التركيز على الضرائب في وقت يعاني المواطن اللبناني من تضخّم كبير وارتفاع غير مسبوق في الأسعار، وهو ما يزيد من الأعباء المعيشية على الفئات الأكثر ضعفاً.
من المتوقّع أن تزيد الإيرادات من ضريبة الدخل على الأرباح والرواتب والأجور بشكل كبير. على سبيل المثال، ارتفعت الإيرادات المتوقّعة من الضرائب على الدخل والأرباح ورؤوس الأموال من حوالي 21 تريليون ليرة في موازنة 2024 إلى حوالي 43 تريليون ليرة في موازنة 2025. ومع ذلك، هذه الزيادات في الضرائب تأتي دون خطط تنموية واضحة لتحفيز الاستثمار أو خلق فرص عمل، جاعلةً العبء الضريبي أكثر صعوبة على المواطنين والشركات في ظلّ الأزمة الاقتصادية الراهنة.
في الآونة الأخيرة جاءت أكبر الضرائب على جيب المواطن اللبناني من السلطة النقدية. عندما اتّخذ مصرف لبنان قرار رفع سعر صرف دولار منصة صيرفة إلى 89,500 ليرة للدولار الواحد، رفع إيرادات الدولة من 15,000 ليرة إلى السعر الجديد. وهذا يشكّل أضعاف ما كان يتكبّده المواطن من ضريبة الدخل ومجموعة رسوم (اتّصالات، مياه، كهرباء، إلخ). جاء تنفيذ هذا التعديل في سعر الصرف فوريّاً. فيما المواطن اللبناني ما زال ينتظر تعديل سعر صرف دولار السحوبات من الحسابات المصرفية المعنونة بالدولار المحلّي.
التوسّع في الإنفاق لا يسدّ حاجات النّاس
شهد الإنفاق الحكومي زيادة بنسبة 39% مقارنة بموازنة 2024، لكنّ هذه الزيادة جاءت جزئيّاً لتعويض الخسائر السابقة في الإنفاق على البنية التحتية والصيانة. ومع ذلك، لا تزال الموازنة غير كافية لتلبية احتياجات الخدمات الأساسية مثل الصحّة والتعليم التي تعتبر ذات أولوية خاصّة في ظلّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية.
تُظهر البيانات أنّ الزيادة في الإنفاق الحكومي تركّزت على مشاريع البنية التحتية والصيانة. وهو أمر مهمّ للحفاظ على البنية التحتية الأساسية. لكنّ الجانب الآخر من القصّة هو أنّ الإنفاق على الخدمات الاجتماعية المباشرة مثل تحسين جودة التعليم أو توفير الرعاية الصحّية بأسعار معقولة لا يزال محدوداً.
استمرار العجز واعتماد سياسات الاقتراض
على الرغم من أنّ العجز المتوقّع في الموازنة لعام 2025 يبلغ 4.1%، إلا أنّ ذلك يعود جزئياً إلى تراجع حجم خدمة الدين بسبب التوقّف عن سداد أقساط وفوائد الديون الدولية منذ 2020. ومع ذلك، لا يزال هذا العجز يشير إلى غياب رؤية واضحة لتقليل الاعتماد على الاقتراض. خاصة أنّ الموازنة تعتمد على الاقتراض المحلّي عبر إصدار سندات خزينة، وهو ما يعكس استمرارية السياسة المالية غير المستدامة.
تعتمد الحكومة على الاقتراض لتمويل عجز الموازنة بدلاً من تحسين الإيرادات عبر سياسات ضريبية جديدة أو إصلاحات اقتصادية. هذا النمط من الاعتماد على الاقتراض قد يؤدّي إلى تضخّم الدين العام وزيادة العبء المالي على الدولة في المستقبل. خاصة إذا لم يتمّ استخدام هذه الأموال في مشاريع تنموية تُسهم في تحفيز الاقتصاد وزيادة الإنتاجية.
مخاطر الاعتماد على دولرة الاقتصاد
تعكس الموازنة الاعتماد المتزايد على “دولرة الاقتصاد”. وهو ما يعني اعتماد الاقتصاد اللبناني بشكل كبير على العملة الأجنبية، خصوصاً الدولار الأميركي. زيادة الإيرادات الضريبية المتوقّعة تعتمد على هذا الاتجاه. إذ يتمّ فرض الضرائب على المداخيل والفواتير بالدولار.
يشير الاعتماد على دولرة الاقتصاد إلى ضعف العملة المحلية (الليرة اللبنانية) وفقدانها لقيمتها. وعلى الرغم من أنّ هذا التوجّه قد يساعد على زيادة الإيرادات في المدى القصير، إلّا أنّه يحمل مخاطر كبيرة على الاستقرار الاقتصادي في المدى الطويل. إذ يؤدّي إلى تفاوت في القدرة الشرائية بين المواطنين ويزيد من الفجوة الاقتصادية. علاوة على ذلك، يزيد عدم استقرار سعر الصرف من مخاطر التضخّم ويضعف قدرة الدولة على السيطرة على الاقتصاد بشكل فعّال.
في ضوء ما سبق، يظهر بوضوح أنّ مشروع موازنة 2025 لا يقدّم حلولاً كافية للأزمة الاقتصادية المستمرّة في لبنان. غياب الإصلاحات الجذرية والاعتماد على سياسات غير مستدامة مثل الاقتراض والدولرة يشكّلان عقبات رئيسية أمام تحقيق أيّ تقدّم اقتصادي. إذا استمرّت الحكومة في هذا النهج، فمن المرجّح أن يظلّ لبنان يعاني من أزمات مالية واجتماعية حادّة. لذا من الضروري وضع استراتيجيات جديدة تهدف إلى تحسين الكفاءة المالية، تعزيز الشفافية، وتحفيز النموّ الاقتصادي. بدلاً من الاعتماد على الحلول المؤقّتة والمزيد من الاقتراض.