الصحف

الإنذار النهائي الناعم لإسرائيل: الغرب يقترب من فرض مواعيد حاسمة

بدأت الضغوط العالمية على إسرائيل تتخذ شكل “الإنذار النهائي الناعم” soft ultimatum وسط تكثيف التعاون الأميركي – الأوروبي نحو فرض موعد حاسم deadline لوقف النار، يكون بمثابة “خط أحمر” على إسرائيل أن تحترمه. بالموازاة، يزداد التنسيق مع الدول العربية والإسلامية سعياً وراء صيغة تضمن لإسرائيل عدم تكرار ما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وتُطلق معادلة أمنية وسياسية جديدة تتعدّى مجرد “الاحتواء” Containment.

في هذه الأثناء، تتحرّك الدول الخليجية العربية- السعودية والإمارات وقطر وعمان والبحرين والكويت- ليس فقط لتقديم المساعدات الإنسانية لفلسطينيي غزة، وإنما في إطار التعاون الوثيق مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وذلك لوضع استراتيجية عمليّة براغماتية اقليمية ودولية، تحدّد معالم “نزع الفتيل” de-escalation ثم “السلام المستدام”.

كل هذه الجهود تصطدم حالياً بإصرار إسرائيل على رفض وقف النار إلى حين الانتهاء من مهمّة تدمير “حماس” وقياداتها، مهما كانت الكلفة الإنسانية على أهل غزة والسياسية على قادة العالم، ومهما استغرقت العملية من وقت. فرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لا يدافع عن بلده بقدر ما يدافع عن بقائه في السلطة وخارج السجن الذي ينتظره نتيجة تهم الفساد.

إطالة حرب غزة لن تخدم الأهداف الإسرائيلية التي يسعى وراءها المسؤولون الإسرائيليون- تلك المتعلقة بسحق البنية التحتية العسكرية لحركة “حماس” ودفع قياداتها الى خارج غزة، وتلك غير المعترف بها علناً لكنها واضحة ميدانياً، أي التهجير القسري لأهالي غزة شمالاً إلى جنوباً، أو إلى خارج القطاع.

لا الرئيس الأميركي جو بايدن يستطيع إعطاء صك لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومؤسسته العسكرية للمضي “بتنظيف” غزة من أهلها حتى بحجة تنظيفها من “حماس”، ولا الحكومات الأوروبية جاهزة لمباركة التطرّف في أداء إسرائيل بذريعة الدفاع عن النفس والانتقام من تطرّف “حماس”، لأنّ الأمن الإقليمي مهمّ لأوروبا- وكذلك لأميركا والشركاء الآخرين من “مجموعة السبع” G7 – ولأنّ عواقب تلك المباركة مكلفة جداً للقيادات في كل هذه الدول.

وزراء خارجية مجموعة السبع، وأثناء اجتماعهم في طوكيو هذا الأسبوع، أكّدوا دعمهم “هدنات وممرات إنسانية”، وناقشوا كيفية تنشيط جهود السلام في “اليوم التالي” بمجرد انحسار الصراع هناك على أساس مبدأ حلّ الدولتين لشعبين “السبيل الوحيد لتسوية الصراع”. الدول الصناعية السبع- الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان ومعها الاتحاد الأوروبي، دانت هجمات “حماس” على إسرائيل، ودعت السلطات الإيرانية الى الامتناع عن دعم حركة “حماس” الفلسطينية و”حزب الله” اللبناني. وجاء في البيان الختامي، أنّ “أعضاء مجموعة السبع، يعملون، الى جانب الشركاء الإقليميين، على تجنّب توسّع الصراع (في الشرق الأوسط) ونحن نعمل معاً، بما في ذلك على العقوبات وغيرها من التدابير لمنع حركة “حماس” من تلقّي الأموال”.

لغة العقوبات ظهرت، للمرّة الأولى ومنذ فترة طويلة، في إطار الكلام عن إسرائيل وليس فقط “حماس” ومن يموّلها، وذلك على لسان نائبة رئيس الوزراء البلجيكي، بيترا دي سوتر، التي قالت إنّه “حان وقت فرض عقوبات على إسرائيل. فإلقاء القنابل مثل المطر أمر خارج عن الإنسانية، ومن الواضح أنّ إسرائيل لا تهتم للدعوات الدولية لوقف إطلاق النار”. أضافت، انّ على الاتحاد الأوروبي فوراً تعليق اتفاق الشراكة مع إسرائيل لتحسين التعاون الاقتصادي والسياسي، مطالبةً بفرض حظر على السياسيين والجنود المسؤولين عن “جرائم حرب” من دخول الاتحاد الأوروبي.

الموقف البلجيكي استثناء وليس القاعدة، ثم أنّه أوروبي وليس أبداً موقفاً أميركياً، لأنّ الولايات المتحدة – بشقي الجمهوريين والديموقراطيين- لن تفرض عقوبات على إسرائيل، مهما كان. هذا ما تعرفه إسرائيل جيداً، ولذلك تتمادى.

المشكلة للرئيس بايدن هي أنّ الرأي العام الأميركي تحوّل بعيداً من الدعم التلقائي لإسرائيل بلا شروط وحدود. الحزب الديموقراطي منقسم لدرجة أنّ اليسار فيه خطير على بايدن وحظوظه الانتخابية، بسبب معارضة اليسار القوية للتصرّف الإسرائيلي وإصراره على فرض وقف النار على إسرائيل.

فإذا كان السيد نتنياهو يرى في وقف النار هزيمته السياسية، فإنّ السيد بايدن يواجه هزيمته السياسية المحتملة إذا استمر في الخضوع لإصرار نتنياهو ومؤسسته العسكرية على رفض وقف إطلاق النار. الهدنة الإنسانية التي أعلنها الرئيس بايدن لأربع ساعات يومياً لن تكون كافية ولا هي عمليّة إنسانياً. ثم أنّ ارتباطها، سهواً أو عمداً، بفكرة “الترانسفير” أي فرار الفلسطينيين اضطراراً من بيوتهم وأرضهم الى مكانٍ آخر، إنما تقع في صميم “التهجير القسري” الذي تتبنّاه إسرائيل، اقتناعاً منها انّ حلّ المشكلة الفلسطينية يكمن في تهجير أهل غزة قسراً الى سيناء في مصر، وفي إبعاد أهل الضفة الغربية فرضاً إلى الأردن.

المعارضة العربية، لا سيّما المصرية والأردنية، لسياسة التهجير القسري الإسرائيلية لا تعني فشل هذه السياسة، لأنّ إفشالها يتطلّب أكثر من مجرد معارضتها فيما تتحوّل عملياً الى أمر واقع.

هناك جزء لا يُستهان به من الرأي العام الأوروبي والأميركي، وبالذات اليهودي، يعتبر أنّ حلّ النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي والعربي- الإسرائيلي متوفّر في استقبال مصر لملايين الفلسطينيين في سيناء الكبيرة، بمعونات تأهيل ضخمة عالمية معظمها عربية. هذا إلى جانب المطالبة باستقبال دول عربية بعيدة من فلسطين الآلاف من الفلسطينيين لإعادة تأهيلهم في أراضيها.

الردود في الأوساط العربية وكذلك في أوساط عالمية لا يُستهان بها وبحجمها، هو أنّه لا يجوز اقتلاع شعب وعائلات من بيوتها في عملية تنظيف عرقي تنتهي بمصادرة إسرائيل قطاع غزة بشاطئه الجميل، وثروات الغاز في بحره، وبموقعه الاستراتيجي المفيد لمشروع قناة بن غوريون. هذا المشروع المعروف بـ”البديل” عن قناة السويس تمّ وضعه سراً عام 1963 في وزارة الطاقة الأميركية، بحسب مركز “أوراسيا” eurasiareview، وهو يربط بين خليج العقبة والبحر المتوسط ويلتف حول قطاع غزة للتواصل مع البحر المتوسط. هذا المشروع ليس للاستفادة الاقتصادية فقط، وإنما فيه فوائد استراتيجية ضخمة لإسرائيل وشركائها.

مهما كان هذا الرأي أو ذاك، فإنّ الرأي العام العربي والعالمي يراقب ويحاكم، لاسيما في صفوف الجيل الجديد، وهو يعارض ما تقوم به إسرائيل في غزة في الوقت ذاته الذي يدين فيه قيام “حماس” باحتجاز الرهائن والاختباء تحت المستشفيات. إسرائيل لا تبالي طالما الفرصة متاحة أمامها لاستكمال تدمير البنية التحتية العسكرية والقيادية لحركة “حماس”- الأمر الذي أنجزت فيه كثيراً وقد تتباهى بانتصارٍ جزئي فيه. لكن محو “حماس” سياسياً ليس في متناول إسرائيل- وهي تدرك ذلك، وبالتالي تصرّ على الدول الاقليمية أن تستقبل قيادات “حماس” عندها.

إسرائيل رفضت الصفقة package التي عرضتها عليها “حماس” في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، ووضعت فيها تصوّرها للحل الوسط والتنازلات من أجل وقف النار. فهي ترفض فكرة إنقاذ “حماس” بأيّة صورة أتت، وتعارض قطعاً أياً ما يمكن لحركة “حماس” أن تزعم أنّه انتصار لها. إسرائيل تضع تكبيل قدرات “حماس” العسكرية شرطاً مسبقاً، وهي تريد من الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها، أن تطالب الدول العربية وتركيا وإيران بالإلتزام والضمانات بكفالة ألاّ تتمكن “حماس” أو غيرها من التنظيمات المشابهة من تكرار حدث 7 تشرين الأول (أكتوبر) بأي شكل كان.

الإدارة الأميركية تبحث في تلك الصيغة الواقعية والعمليّة التي تنطوي على ضمانات تهدئ إسرائيل وتؤدي الى علاقات طبيعية معها في المستقبل. هذا ما يدور في الكواليس مع الدول العربية المعنية مباشرة بالنزاع مع إسرائيل، والدول الخليجية تلك المعنية بالسلام والتطبيع مع إسرائيل، وتلك التي تقوم بأدوار الوساطة خلف الأضواء كقطر في ملف الرهائن وعُمان في ملف العلاقات مع إيران.

حفاوة استقبال رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في أبوظبي هذا الأسبوع، عكست الإصرار على توثيق مسيرة البلدين نحو التعاون في كل المجالات.

كلٌ منهما يلعب أدواراً مهمّة بعيداً من الأضواء، ويسعى للبناء على القواسم المشتركة. وكل منهما يحتفظ بمقاربته لأحداث غزة. في تغريدته على “X”، تحدّث الشيخ تميم عن “تكثيف الجهود لوقف العدوان على غزة، واتفقنا على أهمية قيام المجتمع الدولي بدوره الإنساني في ما يتعلق بفتح الممرات الآمنة وإيصال المساعدات الإنسانية”. وفي تغريدته تحدّث الشيخ محمد عن ضرورة “وقف النار الفوري في قطاع غزة، ضمان ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية، وحماية جميع المدنيين”. وقال إنّ الإمارات وقطر مصمّمتان في الحضّ على تعزيز جهود الدفع نحو نزع الفتيل ونحو ضمان سلام عادل وشامل في المنطقة”.

منذ سنوات ودولة الإمارات تتحدّث عن ضرورة نزع فتيل النزاعات في كامل منطقة الشرق الأوسط، وليس فقط في النزاع مع إسرائيل، بل بدأ الحديث عن ضرورة نزع فتيل الخلافات مع إيران بالذات.

المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، الدكتور أنور قرقاش، كان تحدّث عن سياسة “نزع الفتيل” للمرّة ا
لأولى أثناء استضافتي له في الحلقات السياسية الافتراضية لقمة “بيروت انستيتيوت” الرابعة في أبوظبي قبل 3 سنوات. الأسبوع الماضي، وفيما كان يتحدّث أمام “مؤتمر السياسة الدولية” في السعديات، كان لافتاً قوله انّ أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) وهجمات “حماس” أثبتت انّ سياسة “الاحتواء” فشلت، وأنّ “للاحتواء قيوداً ومحدودية”، وأنّ ما نحتاجه اليوم هو “إيجاد حلول”، وهناك “فرصة أمام الولايات المتحدة” لتلعب دور “حلّال المشاكل” problem solver في المنطقة، وأنّ الإمارات بين الدول “الأكثر بنّاءة” constructive في العمل الهادئ لإيجاد الحلول “وليست الأكثر صخباً” not the loudest.

القمم التي استضافتها السعودية بالغة الأهمية وتترقّبها دول العالم. ذلك أنّ الرسالة العربية نحو “حماس” ومغامراتها، ونحو إسرائيل وانتقاماتها ستكون موضع اهتمام عالمي. والمتوقع هو لغة جديدة غير تلك التي صدرت تقليدياً عن القمم العربية.
فالتفكير في معظم الدول العربية أصبح تجدّدياً وأكثر جرأة. لكن أجواء الرأي العام العربي والعالمي لا ترضى بهذا القدر من الفتك الإسرائيلي بالمدنيين الفلسطينيين، حتى وإن كان الغضب عارماً مما فعلته “حماس” لدى جزء كبير من القاعدة الشعبية العربية.

لذلك، ستضطر الحكومات العربية أن تسير على حبل مشدود بكل حذر وبكل شجاعة، لتطرح ما لديها بتصوّر واضح وبكل ما يقتضيه منها نفسها، ومن الولايات المتحدة بالذات، كما من إسرائيل ومن المنظمات الفلسطينية، وكذلك من “السلطة الفلسطينية”- الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. فهذه السلطة تقع الآن في امتحان مصيري- أمامها فرصة وفي وجهها هوّة ستسقط فيها إذا أساءت استخدام الاستعداد العربي والدولي لمساعدتها، وتقوقعت كعادتها.

مرة أخرى، انّ المرحلة تتطلّب الجرأة على القيادة. على إدارة بايدن أن تجرؤ على إجبار إسرائيل بأن تكفّ عمّا تقوم به. وعلى إيران أن تجرؤ على لجم أذرعها. فكفى انتصارات مكلفة. وعلى الدول العربية أن تتكاتف حقاً في نقلة نوعية تستند إلى الجرأة، لأنّ هناك بالذات بيت القصيد- والكل في الانتظار.

المصدر
النهار العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى