الصحف

شطب الودائع الى الواجهة مجدداً… وصندوق النقد غادر محبطاً!

بداية عام 2020 كان احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية 31 مليار دولار، وهي وإن كانت تُدرج في بيانات “المركزي” على أنها من الموجودات، إلا أن الجميع كان يدرك أن هذه المليارات ليست إلا بقايا الودائع المصرفية في مصرف لبنان.

الدولار كان عند عتبة 3000 ليرة، والانهيار لم يكن عصياً على المعالجة. فقط كان المطلوب الوعي السياسي والحكمة معطوفَين على الجرأة في الإقدام على خطوات تتخطى السيناريوات الكلاسيكية في معالجة أزمة وانهيار مريع كانت نُذره تلوح في الأفق.

طُرحت مشاريع حلول جريئة ومساعِدة على وقف النزف النقدي والإهتراء المتسارع لسعر صرف الليرة، منها إعادة ثلث الودائع فوراً الى الناس، وكان ذلك ممكناً جداً من خلال استخدام ما يقرب من 25 مليار دولار من احتياطات مصرف لبنان، تحوّل فوراً الى صناديق المصارف لتوزَّع على نحو مليون ومئتي الف مودع تقريباً، توازياً مع إقرار القوانين اللازمة للخروج من الأزمة، وفي مقدمها قانون “الكابيتال كونترول”، وشطب الفوائد المكتسبة على الودائع من الهندسات المالية.

لم يستجب أحد للطروحات المقترحة، وغابت الدولة عن إشغال الجرأة والحكمة وتحمّل المسؤولية، وغاص أهلها في وحول مناكفاتهم السياسية المعتادة، بعدما سقط الاقتصاد كليا في هاوية التضخم، وبات المواطن “شحاداً” على أبواب المصارف، أو محتجز رهائن داخلها، وتحوّل المودعون الى الحلقة الأضعف، وجنى العمر إلى أسيرٍ في دفاتر مصارف شبه مفلسة تستجدي السيولة من مصرف لبنان، فيما ودائعها أيضاً مختطفة منه لمصلحة الدولة.
ما الحل؟ ومن أين يبدأ؟ وعلى يد مَن؟ وكيف السبيل الى ذلك في ظل دولة لا يزال التفكك والتشرذم وشغور المواقع يظلل أداءها، ويعمي بصائر مسؤوليها؟

ثمة إجماع على أن جميع مشاريع الحلول، وإطلاق عجلة الاقتصاد، وتعزيز معدلات النمو، معدومة فرص النجاح ما لم تتبنَّ إعادة الودائع المصرفية إلى أصحابها، ووصْل خيط الثقة المفقود كليا بين المودعين والمصارف. يبدأ ذلك من اعتراف الدولة بـ”فعلتها” وتحمّل مسؤولية الخسائر التي تسببت بها، ومن ثم إقرار ما يلزم من قوانين لإنشاء الصندوقين السيادي والائتماني، لإيجاد ما أمكن من سيولة لتسديد الودائع مرحليا. هذه الحلول ممكنة في حال صفت النيّات، وابتعد أهل الدولة عن الإستتباع في خططهم حول الودائع لصندوق النقد الدولي.

فمنذ بداية تعاطي الصندوق مع الأزمة اللبنانية طرح اقتراحاً للخروج من مأزق الودائع بأقل كلفة على الدولة، لا يقبل بغيره، وهو شطب الودائع، واستطاع من خلال مؤيدين لسياساته في الحكومة إدراج “الشطب المنظم” في سياق الخطط الحكومية للخروج من الأزمة، علما أن ثمة حلولاً عدة قُدمت في مسألة شطب الودائع، على خلفية أن التفاهم مع الصندوق لا يعني بالضرورة الموافقة على خطة تؤدي الى شطب ودائع المواطنين لدى المصارف التجارية والمقابل لها في مصرف لبنان أو بإعادتها فورا. من الحلول اعادة جدولة جميع الاصول والالتزامات المالية الخاصة والعامة بالعملة الاجنبية والمحلية لفترة زمنية متوسطة (5 سنوات) بدلا من شطب الودائع ورؤوس أموال المصارف، ومع الرجوع الى القضاء لاعادة أي ودائع ناتجة عن أعمال غير قانونية أو حوّلت الى الخارج بطرق غير شرعية. هذا الاقتراح سلّمه الوزير السابق الدكتور سمير المقدسي ورئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية الدكتور منير راشد الى الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في بيروت فريديريكو ليما. فهل بات شطب الودائع أمرا واقعا لا مفر منه؟

قبل أيام غادر وفد صندوق النقد محبطا من أداء الحكومة الاصلاحي، وخصوصا حيال عدم الاذعان لمطلبه بشطب الودائع، وذلك بعدما تأكد من النواب الذين التقاهم انهم غير قادرين على تمرير هذا البند ضمن خطة التعافي الحكومية، بما يعني أن ثمة حاجة لإعادة التفاوض مع الصندوق على خطة جديدة.

وفي الانتظار، يبدو ان السجال الدائر حاليا حول مسألة استرداد أموال المودعين، يضعنا فعلاً أمام معضلة عقيمة متعددة الجوانب. الجانب الأول متمثل بدولة أعلنت تعثّرها في العام 2020 بعدما أنفقت مليارات الدولارات من أموال المودعين لتمويل حاجاتها وهدرها، ولا تزال تتعامل مع الأزمة باستخفاف وكأنها غير معنية على الإطلاق بالخسائر المالية المتراكمة. أما الجانب الثاني فهو متمثل بقطاع مصرفي أعلن أيضا تعثّره بمجرد امتناعه عن تسديد الودائع بالدولار، بعدما وظَّف معظم محفظته لدى مصرف لبنان، ما يعني أننا أمام مصارف فقدت فعليا معظم وظائفها الحيوية، فهي مصارف متعثرة نتيجة شحّ السيولة لديها، وغير قادرة على استقطاب ودائع جديدة نتيجة انعدام الثقة، وتاليا فهي غير قادرة على التوظيف ومنح قروض مصرفية، ما يعني أنها فقدت دورها الرئيسي في عملية خلق النقد وتحفيز الاستثمار في الاقتصاد الوطني.

من هنا يعتبر الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو، ان كل ما يصدر اليوم عن الدولة اللبنانية بمختلف مؤسساتها لجهة رفضها التام لأي عملية شطب لودائع الناس هو حتى الساعة “كلام شعبوي غير مبني على حقائق ووقائع منطقية، خصوصا أن طريقة تعامل الدولة مع الأزمة الراهنة منذ أربع سنوات لا توحي بأنها تولي حقوق الناس وأموالهم أي اهتمام. لا بل على العكس فإن الدولة قد أمعنت في استنزاف ما تبقّى من أموال المودعين من خلال المسّ بالاحتياط الإلزامي لدى مصرف لبنان لتمويل جيوب المهربين والمحتكرين، خصوصا عن طريق عمليات الدعم المشبوهة، وهي كانت قد لمّحت في مراحل سابقة إلى موضوع شطب الودائع أو تصنيفها بين ما دون الـ100 ألف دولار وما فوقها، أكان في خطة الرئيس حسان دياب أو حتى في خطة الرئيس نجيب ميقاتي التي كانت تنوي تحميل معظم الخسائر للقطاع المصرفي، ما يعني المودعين بشكل مباشر، أولا عبر شطب رأس مال المصارف بالكامل، وثانيا عبر شطب 60 مليار دولار من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية إزاء المصارف التجارية، وهذه الالتزامات ليست سوى توظيفات القطاع المصرفي لدى مصرف لبنان، أي ودائع اللبنانيين”. هكذا خطوة برأي قانصو، إن حصلت، فهي “تشكل ضربة قاضية لما تبقى من أنقاض للقطاع المصرفي وانعدام جدي للثقة قد يمتد لسنوات طويلة، علما أن ودائع اللبنانيين قد تعرضت فعليا ولا تزال لعملية اقتطاع غير مباشر وممنهج منذ نهاية العام 2019، بمجرد سحب الودائع وفق التعميم 151 على أساس سعر صرف بعيد عن السعر الحقيقي للدولار في السوق الموازية، وهو ما ساهم بتراجع الودائع والالتزامات بالدولار من 121 مليار دولار في نهاية العام 2019 إلى 93 مليار دولار اليوم”.

وعليه، يرى قانصو أن “أي عملية لاستعادة أموال المودعين لا يمكن أن تمر خارج قنوات ثلاث، أولاها إستعادة الأموال المنهوبة والمحوّلة إلى الخارج، ولكن في ظل توافر الحماية اللازمة وغياب عناصر المحاسبة والمساءلة حتى الساعة، فإن هكذا حل لا يبنى عليه في الوقت الراهن. ثانيها طرح إنشاء صندوق سيادي عبر استثمار أصول الدولة ومؤسساتها، ومن ثم إعادة الودائع بشكل تدريجي من خلال إيرادات هذا الصندوق، هو إجراء يبنى عليه ولكن مفاعيله طويلة الأمد ويبقى حتى الساعة حبرا على ورق، خصوصا ان اصول الدولة ومؤسساتها في حال يرثى لها وغير صالحة للاستثمار في الوقت الحاضر، فمعظمها إما في حال إفلاس وإما في حال تحلل وهريان، كمؤسسة كهرباء لبنان المفلسة، أو قطاع الاتصالات الرازح تحت ضغوط تشغيلية جمة، أو مطار بيروت المتهالك أو مرفأ بيروت المدمر”.

ثالث هذه القنوات، وهي الاهم، برأيه تتعلق بـ”إعادة هيكلة القطاع المصرفي بأي ثمن والبدء بتطبيق مصطلح المصرف الجيد والمصرف السيىء، عبر إنشاء وحدة خاصة داخل كل مصرف تقوم بتقييم الموجودات السامة وإدارتها، وتاليا عزل هذه الموجودات السامة وغير السائلة أو التسليفات المشكوك بتحصيلها عن الموجودات الجيدة، مع تفرّغ المصرف السيىء لتقييم وإدارة هذه الموجودات السامة أو الديون المتعثرة من جهة، وتركيز المصرف الجيد على أنشطة الأعمال الأساسية كاستقطاب الودائع والتوظيف والتسليف من جهة أخرى. وهي خطوة من شأنها أن تعزز الشفافية وتسمح للمستثمرين بتقييم السلامة والمكانة المالية للمصرف”.

ولكن في ظل المماطلة المفتعلة من أصحاب القرار وعدم الاعتراف بمدى فداحة الأزمة، يخشى قانصو أن تلجأ السلطات المعنية إلى الحلول السريعة وبأقل كلفة على الدولة. حلول قد تتمثل إما بشطب جزء من الودائع ما فوق سقف محدد يكون رهنَ ما تبقّى من عملات صعبة داخل النظام المالي اللبناني، وطبعا كل يوم تأخير يعني المزيد من الاستنزاف، وتاليا المزيد من التخفيض لهذا السقف أو اللجوء إلى استبدال الودائع بأسهم في مصارف مفلسة، وذلك بذريعة ضرورة تقبّل الأمر الواقع، أو اللجوء إلى ليلرة الودائع بالدولار عبر تحويلها الى الليرة اللبنانية وفق سعر صرف يتحدد وفق الظروف الاقتصادية في حينه بمعزل عن التداعيات الخطيرة لهكذا إجراء على الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي، وتحديدا على صعيد الكتلة النقدية بالليرة وعلى سعر الصرف خصوصا.

المصدر
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى