مقالات خاصة

بين حريق الشجر وحريق الطائفية…

بقلم د. وسيم بكراكي

منذ أيام ونحن نتابع بكل أسف مشاهد الحرائق التي تندلع في شمال لبنان وفي ما يزيد عن 20 موقع مختلف على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط من الحدود التركية في عدد حرائق زاد عن 58 حريق مختلف بعضها مفتعل كما يبدو والاخر بسبب حالة الطقس والإهمال (كرمي السجائر أو عدم إطفاء نار الشواء بشكل صحيح…الخ).

لا شك أن هذه المناظر سواء أكانت في تركيا أو في لبنان هي مؤلمة ومحزنة جدا ولكن عندما تمتلك فرصة مشاهدة كيفية تعامل حكومتي وشعبي البلدين مع هذا النوع من المصائب تشعر بحزن عميق في لوحة المشهد اللبناني التي تخلو من أي نوع من أنواع الرحمة والشعور بالمسؤولية الوطنية والإنسانية لا بل والبيئية.

في تركيا حرائق ابتدأت في نفس الوقت بفعل فاعل في 71 منطقة مختلفة تفاعلت الدولة معها منذ اللحظة الأولى بشكل جدي جدا تم السيطرة على 57 منها وما زالت حتى الآن عشرات الطائرات الهليكوبتر المروحية (45 مروحية) والطائرات المسيرة IHA الخاصة بالإطفاء من جودة الصناعات التركية المحلية وفرق الاطفاء المتعددة من مختلف المناطق التركية وفرق الازمات “أفاد” تذهب وتشارك في عملية الاطفاء في 1140 نقطة حريق مختلفة في أكبر حريق تشهده تركيا حتى الآن ربما.

أركان الدولة يتابعون من أرض الحدث وبكامل الجهوزية والتنسيق، والشعب والحكومة يتكاملان معا في تقسيم الأدوار بشكل وطني طبيعي لتجاوز هذه الأزمة التي أحرقت العديد من القرى وآلاف الأشجار في المنطقة وأودت للأسف بحياة 3 من المواطنين الأتراك حتى الساعة.

لم تكتف الدولة بمتابعة عملية الإطفاء بل بدأت التخطيط لإعادة ما ضاع واحترق فباشرت وزارة الزراعة خطتها مسرعة لتجهيز حملة وطنية لتشجير كل شجرة احترقت أو ما زالت تحترق حتى قبل أن تنتهي عملية الاطفاء…

كما تشاهد تكاتف الشعب التركي الذي هب بحس الوطنية والمحبة لإرسال المساعدات والمراهم الطبية والأدوية الخاصة بالحروق والمستلزمات الضرورية للشعب الذي فقد قريته وداره وهو يعلم يقينا أن الدولة ستعيد بناءها بأفضل مما كانت عليه من قبل.أما في المشهد اللبناني؛ فحدث ولا حرج؛ فبهذا الحريق الأخير قد تكون القرى متجاورة جغرافيا ولكن الشجر فيها له لون طائفي بحسب المكان الذي يحترق فيه.

إن كان في المنطقة “ق” فكل ما يمكن توفيره للمنطقة من فرق إطفاء ووسائل لوجستية ممكنة وتغطية إعلامية هو أمر يتم ولكن بالطبع بالسرعة اللبنانية المعهودة (التي هي أصلا تشبه العدم) ولكن عندما تنتقل هذه الحرائق إلى المنطقة “أ” فإن الحرائق ستصل إلى وادي خالد على الحدود السورية دون أن تجد هذا الحد الأدنى من الاهتمام. كيف لا والشجر نفسه طائفي (كيف لا أعلم. … اسألوا النواب والمسؤولين) ويصنف بحسب المنطقة التي ينتمي اليها. فحتى الشجر في لبنان له نكهة طائفية تجعل منه شجرة ذا قيمة أو شجرة منسية مهملة لا يحزن عليها أحد من الساسة حتى لو قطعت أو احترقت أو “غارت في الجحيم” وأبسط الأمور التي لا تخرج عن مجرد التعاطف والدعاء ومشاركة الحزن والألم هي أمور لن تجدها في المنطقة “ع” كما قد تجده في المنطقة “م” مثلا صاحبة التميز الطائفي الذي يجعل منها عروس السهل بكامله.

أكثر ما يحزنني في هذا البلد العظيم أن الحريق الطائفي المتمثل بالنظام الطائفي السياسي هو الحريق الذي لم يجد له حتى اليوم من يتمكن من إخماده والتخلص منه وها هو لبنان “الغارق اقتصاديا وسياسيا وماليا وعسكريا” ينتظر أشهر طويلة دون الوصول إلى حكومة تدير البلد لأن هذا الطائفي هنا يريد حصة طائفية هناك تعطل حصة الطائفي هنالك.

فمتى سيجد وطني الجرأة في شعبه للمسارعة في إطفاء نار هذه الطائفية السياسية التي لم تبقي ولم تذر ولم يسلم من نارها لا الشجر ولا الحجر ولا حتى الرمال في عمق البحر. لقد أضاعت نار بلدنا الطائفي الحلم بأي شيء في هذا الوطن الذي لا يخجل زعماؤه وتحت اسم الطائفية السياسية من حرق كل البلد بانتظار مكسب يعتقدونه من حقهم ونعتبره مجرد وهم يحترق فيه “كهل” لبنان وهو لا يدري انه أحرق معه كل شبر في الوطن بما فيه طائفته ومدينته وقريته.

أشهر طويلة انتظرها لبنان يوم عطلت فيه كل الدولة ليتم انتخاب رئيس يمثل طائفته كما يدعون؛ واليوم ينتظر البلد نفسه الذي وصل قعر البحر الاقتصادي والمالي والعسكري والسيادي ولم يستح ساسته أنفسهم من المضي قدما في لعبة التقاسم الطائفي السياسي باسم أبناء الطائفة وطوائفهم بريئة منهم ومن غباءهم واضغانهم.

كل هذه العوامل المحلية والاقتصادية والمعيشية والمالية الضيقة وما زال هناك من يشترط عليك الشروط لإنجاز حكومة تناسب مقاساته التي فصلها لنفسه والنتيجة بلد غير قادر على تشكيل حكومة تدير دفة البلاد ولو قليلا لتبعدها عن السقوط في الجحيم. … الجحيم الذي وعدنا به نفس العقل المتميز صاحب النظرة الثاقبة، الطائفي الأكبر الذي دمر هو ومن حوله كل شيء…

فلا تحزن أيها المواطن العزيز لحريق آلاف الشجر والحجر فلطالما لم نتخلص من النظام السياسي الطائفي في لبنان لن يكون هناك لا حجر ولا شجر ولا بشر يمكنهم الاستمرار في هذه المهزلة التاريخية التي لم يشهد مثلها في البلاد.

الدكتور وسيم بكراكي

إختصاصي طب أطفال طبيب تركي لبناني رئيس جمعية الثقافة والصداقة اللبنانية ( توليب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى