التيار بلا حلفاء
كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
لم يحمل تكليف الرئيس نجيب ميقاتي اي مفاجأة. فقد كان واضحاً انّ هذه المرحلة ستعبر بكلفتها الداخلية والخارجية من دون القدرة على قراءة المرحلة المقبلة، بعدما استنسخت بعض الشروط التي واجهت سلفه سعد الحريري. وإن ظهر أنّ «التيار الوطني الحر» قد تُرك وحيداً بلا حلفاء، يبقى الأهم في معرفة ما تعهّد به ميقاتي امام رؤساء الحكومات السابقين وحلفائهم، لاستكشاف القدرة على الخروج من النفق الحكومي المظلم؟ فكيف ولماذا؟
لا يتردّد المراقبون عند الجزم في انّ هامش المناورة ضاق امام الجميع، وانّ المساحة الواسعة التي حكمت المرحلة الماضية، والتي تجاهلت كل المآسي التي يعيشها اللبنانيون، قد تقلّصت الى الحدود الدنيا لألف سبب وسبب. وإن كان لا مجال لتعداد هذه الاسباب والإشارة اليها كاملة، لا يمكن تجاهل نسبة الضغوط الخارجية التي بلغت حدودها القصوى، بعدما لامست في نتائجها المقدّرة، الإنهيارات الكبيرة التي تعيشها البلاد، ولم يعد هناك ترف البحث عن بعض المصالح الشخصية الصغيرة، التي لا تتناسب مع حجم الكارثة التي قادت اليها المواجهة المفتوحة بين بعبدا والبياضة و»بيت الوسط» وعين التينة، قبل فك العلاقة بين بعبدا و»بيت الوسط». فمحاولات البياضة إحياء المناكفات التي شهدتها المرحلة الاخيرة كانت كافية لتقود ابطالها الجدد الى موقع باتوا فيه اسرى حصار كاد يكون شاملاً، بعدما تفرق اقرب الحلفاء من حولهم الى درجة العزلة.
على هذه الخلفيات، بُني كثير من القرارات السريعة التي اتُخذت في الايام القليلة الماضية غداة اعتذار الحريري، والتي لم تكن إبنة ساعتها، بعدما تمّ التحضير لها منذ فترة ليست بقصيرة وعلى اكثر من مستوى داخلي وخارجي. فكل المعطيات التي قادت الى التحركات الحاسمة أخيراً، دفعت اهل السلطة الى تبنّي المخارج الأكثر واقعية، والتي يمكن تحقيقها اليوم قبل افتقادها في الغد، مخافة فقدان أي آلية يمكن ان تنتج مخرجاً لأي من الازمات التي بلغت مختلف وجوه الحياة اليومية للدولة ومؤسساتها ومواطنيها والمقيمين على اراضيها.
وعند الدخول في مزيد من التفاصيل التي قادت الى ما نحن فيه اليوم، لا يمكن تجاوز الموقف الذي سجّلته كتلة «الوفاء للمقاومة» التي خرجت عن عاداتها في «اللا تسمية» للرئيس المكلّف في الاستشارات النيابية الملزمة. فوجدت نفسها مضطرة لتسمية الرئيس نجيب ميقاتي، تعويضاً عن موقف حليفها رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل منذ «تفاهم مار مخايل». فباسيل الذي كان مستعداً للذهاب بعيداً في رفضه للتفاهم الواسع حول ميقاتي، الى حدود تسمية القاضي والسفير نواف سلام للقيام بالمهمة، في خطوة اعتبرها الحزب تحدّياً كبيراً له. وهو ما اجبره على الردّ عليها مباشرة وفي وقت قياسي بتسمية ميقاتي، منعاً لحرمان الرئيس المكلّف من الرقم العالي المطلوب للتكليف، ولتوجيه اكثر من رسالة في اكثر من اتجاه.
وفي ظل صعوبة تقديم اي تفسير لموقف «حزب الله» من تسمية ميقاتي أمس لاسباب داخلية فحسب، فإنّه يحتمل كثيراً من التفسيرات والرسائل الموجّهة الى الخارج. فرئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد كان واضحاً في عباراته التي شكّلت رداً على كل من وجّه اليه اتهاماً بالتساهل مع باسيل. فهو تعرّض في الفترة الاخيرة لضغوط متواصلة رافقت محاولة الحريري تشكيل حكومته، بعدم اتخاذ اي موقف واضح وصريح بين طرفي النزاع، ولم يعد في قدرته تحمّل النتائج التي ترتبت على هذه «المعادلة السلبية» التي اتُهم بمقاربتها والحفاظ عليها لأشهر عدة، وهو ما قاد الى ما تعيشه البلاد من حال اهتراء واسعة.
وتأكيداً لهذه المعطيات التي قادت اليها تطورات ومواقف الايام القليلة الماضية، فقد ترجمها رعد عندما أكّد في بيانه المكتوب الذي تلاه من منبر الاستشارات في قصر بعبدا (على عكس المواقف المرتجلة التي اطلقها رؤساء الكتل النيابية الآخرون) «ضرورة تسمية ميقاتي لعكس إرادتنا الجدّية بتشكيل حكومة ولإعطاء جرعة أمل لتسهيل مهمة التأليف»، رابطاً موقفه بـ «ظهور مؤشرات لاحتمال تشكيل الحكومة»، وهو ما يوحي بإعطائه اهمية بالغة للاجواء الخارجية التي تصرّ على عملية التشكيل قبل اي خطوة أخرى، تتيح الولوج الى مرحلة مقبلة، كما بالنسبة الى الظروف الداخلية المحتملة بعد طي صفحة العداء الشخصي بين الحريري ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون التي استهلكت زمناً كان يمكن تجاوزه.
وعليه، يقول العارفون، انّ موقف «حزب الله» لم يكن مفاجئاً، رغم دعوة المراقبين الى انتظار لحظة التصريح بالموقف، وخصوصاً انّهم كانوا ينتظرونه للتأكّد من فشل المحاولة التي قام بها الحزب على مدى اليومين الماضيين لدى باسيل لتغيير موقفه من ميقاتي، وتبرير موقفهم لجهة الإسراع في تسمية ميقاتي بالتفاهم مع كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري والرئيس سعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، من دون علم رئيس التيار، الذي كان يستقصي خبر التفاهم الذي تمّ التوصل اليه على وقع محاولته «زكزكة اطرافه» – وحليفه من بينهم بنوع خاص – بتسمية نواف سلام، الامر الذي اعتبره «الحليف» خروجاً فاقعاً على كل التفاهمات السابقة، عدا عن الحملة المبرمجة التي قادها قادة من التيار بكل قواهم السياسية والاعلامية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ضدّ ميقاتي، بعدما قال رئيس الجمهورية كلمته علناً في حديثه الى «الجمهورية» السبت الماضي في موضوع تسمية ميقاتي وإشادته بمواصفاته واستعداده للتعاون معه.
عند هذه المعطيات، يمكن تجاوز نتائج الاستشارات للبحث في المرحلة المقبلة المتصلة بعملية التأليف، وسط مخاوف من مواجهة محتملة إن ثبت أنّ ميقاتي، قد تعهّد بالبقاء تحت سقف مطالب الحريري والسقوف الاخرى التي رسمها رؤساء الحكومات السابقون، ومنها كما تسرّب الى بعض الاوساط السياسية، انّه تعهّد بتسمية نصف اعضاء الحكومة التي كان ينوي الحريري تشكيلها بالحدّ الادنى، ولا سيما منها الاسماء التي حملت مواصفات الاختصاصيين، بعيداً من منطق انتسابهم الى الاحزاب. إلّا انّ واحدة من النقاط التي لم يتطرق اليها البعض تكمن في تسمية وزير المال من الطائفة الشيعية. فهو ما زال غامضاً، بعدما ثبت أنّ ميقاتي لن يتخلّى عن وزارة الداخلية، وفي اصعب الظروف قد تكون لغيره ولغير رئيس الجمهورية في آن، اذا تمّت التفاهمات بسلاسة على بقية الحقائب الوزارية الأمنية والخدماتية والسيادية.
وفي انتظار ما ستحمله الايام المقبلة، لا يخفي المراقبون في صالونات مقفلة، حديثهم عن مفاجآت محتملة قد تؤدي الى تسهيل عملية التأليف، رغم حجم العقبات المتمثلة بإمكان تجدّد عمليات شدّ الحبال عند العِقَد التي واجهت الحريري. ولذلك يُبنى كثير على ما تسرّب من تبدّل كبير في المواقف. وانّ تجربة ميقاتي ستعبّر عن نتائج الإتصالات الخارجية مع جهات دولية فاعلة في اتجاه تسهيل عملية التأليف. فالبلاد لا تحتمل الارتطام المنتظر على اكثر من مستوى، ولا بدّ من خطوة ما تسهّل الخروج من الازمة قبل تفاقمها وانفجارها الذي تمّ تأجيله اكثر من مرة. ولكن، إلى متى؟