مقالات

اهتمام بالرسوم وإهمال للضرائب…

لم تعُد الدولة “مأزومة” كما بعد الأزمة، وتعكف منذ مدّة على تحسين إيراداتها منذ اتخاذ القرار برفع الدعم، ثمّ إطلاق منصّة “صيرفة”، واعتماد سعرها مرجعاً لاحتساب رسوم الخدمات التي تقدّمها الدولة وتتمسّك بها على الرغم من رداءتها.

في المقابل تُهمل الضرائب على أنواعها، ولا توليها الاهتمام المطلوب. وهذا ما يُفتّق في الأذهان سؤالاً مفاده: أهذا هو الإصلاح المنشود؟ الجواب: قطعاً لا. فلا يكفي أن ترفع الدولة من إيراداتها فحسب. ومن أجل مقاربة طريقة الحصول عليها لا بدّ من الدخول في بنية إيراداتها: هل هي من الرسوم أم من الضرائب؟ هل تلبّي شروط الإصلاح أم هي لمزيد من تقطيع الوقت و”الترقيع”؟

يوجد في علم الماليّة العامّة اختلافٌ بين الرسم والضريبة:

  • الضريبة هي “مساهمة ماليّة” تفرضها الحكومات على الأفراد والشركات عند تحقيقهم دخلاً محدّداً أو نتيجة اقتناء أصول أو عقارات أو غيرها. وتُفرض الضرائب عليها بشكل مباشر أو غير مباشر (ضريبة الدخل، الأملاك المبنيّة… إلخ)، وذلك من أجل تحقيق مصالح الدولة العليا. وبمعنى آخر، تُدفع الضريبة من المواطنين بلا مقابل وتنفقها الدولة على التخطيط والتطوير.
  • الرسم هو مبلغ تتقاضاه الدولة من الأفراد والشركات مقابل خدمة تقدّمها للمواطنين (رسم الكهرباء، رسم الاتصالات…). هذه الخدمات تركتها الدول منذ زمن أو أشركت القطاع الخاص في إدارتها باعتبار أنّ القطاع الخاص أكفأ وأكثر تنافسية من الدولة التي ما عادت مضطرّة إلى تحمّل أعباء الخدمات، خصوصاً بعد ظهور مفاهيم “دولة ما بعد العولمة”.

أمّا في لبنان فالأمر معكوس. إذ تركّز الدولة على فرض رسوم على هذه الخدمات وترفعها إلى أقصى ما يمكن لرفد ميزانيّاتها بالأموال، وذلك على حساب الضرائب التي هي غالباً ما تكون مخصّصة للتخطيط، وذلك بخلاف التوجّهات العامّة المعروفة عن صندوق النقد الدولي وعن طموحات الدول المانحة، بل بخلاف توجّهات الدول الحديثة. وهذا إذا دلّ على شيء، فهو يدلّ على التالي:

1- ضعف الدولة في تحديث بياناتها الضريبية نتيجة الفوضى والفساد المستشريَيْن في كلّ الإدارات، ونتيجة المحسوبيّات والمحاصصة المدفوعة بالانقسام السياسي حول كلّ الملفّات أفقياً وعمودياً.
2- غياب الحماسة لدى الكادر الوظيفي في القطاع العامّ للعمل، مع تحوّله إلى “عبء” بحيث باتت وظيفته المطالبة بزيادة الرواتب من دون إظهار أيّ إنتاجيّة تُذكر.
3- ارتفاع منسوب “اقتصاد الكاش” (يفوق 50% من حجم الاقتصاد) الذي يمنع أجهزة الدولة من تحديد المداخيل الحقيقية، المباشرة وغير المباشرة، وربّما السلطة لا تريد “فضح” أزلامها وجماعاتها المنتفعة من التهرّب الضريبي.
4- تهافت السلطة بالشكل الذي نراه على تحصيل الإيرادات بشكل “سريع” و”عشوائي”.

لهذا تعوّل على الرسوم بدل الضرائب، وهذا الأمر بدوره مؤشّر ساطع إلى غياب التخطيط، بل غياب كلّي للإصلاح الذي تطالبنا به جميع الهيئات الدولية والجهات المانحة، بدءاً من صندوق النقد الدولي ووصولاً إلى أصغر دولة مانحة في أبعد قطر من أقطار العالم.

خلال الجلسة التي أقرّت فيها الحكومة الزيادات للقطاع العام، أجّلت الحكومة بتّ ملفّ الاتصالات إلى أجل غير معروف، لكن على ما يبدو لا مفرّ من إقرار هذه الزيادات، خصوصاً أنّ الاعتمادات التي فتحتها الحكومة من خارج الموازنة لا تكفي لسدّ الزيادة في الرواتب لأكثر من 3 إلى 4 أشهر فقط، بحسب مصادر نيابية شاركت في الجلسة وأسرّت بهذه المعلومات لـ”أساس”.

وفق الدراسة التي يضعها وزير الاتصالات، سيوفّر رفع تعرفة التخابر الأرضي والإنترنت إيرادات للدولة بنحو 15 تريليون ليرة لبنانية سنوياً (قرابة 175 مليون دولار على سعر منصّة “صيرفة”).

  • على مستوى الخطوط الأرضيّة: يبدو أنّ وزارة الاتصالات تتهيّأ لرفع بدل الاشتراك الشهري من 9,000 ليرة إلى 200 ألف ليرة، مقدِّمة للمواطن مقابل ذلك نحو 100 دقيقة تخابر مجّانية أو ربّما أكثر.
    بهذه الطريقة تكون وزارة الاتصالات قد حوّلت الهاتف الأرضي إلى “هاتف مسبق الدفع”، وحصلت على “رسوم” قبل أن تقدّم الخدمة، خصوصاً أنّ خدمات التخابر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مثل “واتساب” أو “تلغرام” وغيرهما من التطبيقات حرمت خزينة الدولة بشكل شبه كلّي من مليارات الليرات بعد تراجع المواطنين عن فكرة استخدام الهاتف الأرضي، الذي ما عدنا نلجأ إليه بتاتاً أو إلّا نادراً.
    ترى الوزارة أنّ هذا الأسلوب سيدفع بالمواطنين إلى استخدام الهاتف الأرضي مجدّداً ما دامت 100 دقيقة متوفّرة مجّاناً لكلّ خطّ، وهذا قد يحفّز الناس على العودة إلى تلك الخطوط وربّما تخطّي الدقائق الـ100، خصوصاً أنّ تعرفة الدقيقة الواحدة بعد انتهاء الدقائق الـ100 ستصبح 300 ليرة لبنانية بحسب خطة وزارة الاتصالات (التخابر من أرضي إلى خلوي أرخص بكثير من خلوي إلى خلوي خصوصاً عبر الهواتف المسبقة الدفع).

يقول المدير العام لهيئة أوجيرو عماد كريدية لـ”أساس” إنّ “عدد الهواتف الأرضية العاملة اليوم هو قرابة 814 ألفاً”. ونتيجة لذلك وبحسبة بسيطة، يمكن الاستدلال من هذا الرقم إلى أنّ هذه الهواتف ستدرّ على خزينة الدولة من بدل الاشتركات فقط، ومن دون الخوض برسوم التخابر، ما يقارب 163 مليار ليرة.

  • على مستوى الإنترنت: قرّرت وزارة الاتصالات رفع التعرفة بين 6 إلى 7 أضعاف، وذلك من خلال رفع سعر صرف “دولار الإنترنت” من 3,700 ليرة إلى 26 ألفاً، وهي زيادة قابلة للتعديل وصولاً إلى سعر منصة “صيرفة” مستقبلاً (82,600 ليرة)، أي أنّ الحكومة تملك هامشَ زيادة إضافيّاً، يُقدّر بنحو 56,600 ليرة، في حال قرّرت بلوغ سقف سعر “صيرفة” كلّه.

من بين الخطوط الأرضية الـ814 ألفاً، ثمّة 470 ألفاً تستفيد من خدمة الإنترنت الخاص بهيئة “أوجيرو” (DSL)، بحسب أرقام “أوجيرو”، أي نحو 57% منها… وهذا بحسب كريدية كفيل برفد خزائن الدولة بما يقارب 15 ألف مليار ليرة لبنانية سنوياً.

لا يتوقّع كريدية أن يتراجع اللبنانيون عن استخدام إنترنت “أوجيرو” أو غيره نتيجة رفع التعرفات، بل على العكس من ذلك، يُتوقّع أن ترتفع أعداد المشتركين لدى الهيئة، وذلك نتيجة حاجة الناس إلى المزيد من التواصل والتخابر، خصوصاً إذا استطاعت “أوجيرو” تطوير خدماتها مستقبلاً، نتيجة تحسّن الإيرادات.

يذكّر كريدية بأنّ سعر التخابر وخدمة الإنترنت في لبنان ما زال مقبولاً نسبياً حتى بعد رفع التعرفة.

هذه “النسبية” في أسعار الاتصالات التي تتحدّث عنها هيئة “أوجير”، قد تبدو منطقية إذا ما احتُسبت على سعر صرف الدولار وقورن بين ما كان يدفعه المواطن في السابق وما يدفعه اليوم، لكنّ المزيد من التدقيق يُظهر كم هي صورة مشوّهة لناحية احتساب رسوم الخدمات نسبة إلى الدولار وليس نسبة إلى الحدّ الأدنى للأجور، الذي يقارب اليوم 9 ملايين ليرة.

أمّا رسوم الأمن العام فتلك قصّة أخرى. ففي الوقت المستقطَع بين جلسة الحكومة الأخيرة والحديث عن طرح مسوّدة الموازنة أعلنت مديرية الأمن العامّ بقرار منها أو ربّما بإيعاز من الحكومة (غير معروف)، رفع الرسوم التي تتقاضاها عن الخدمات التي تقدّمها، مقترفة بذلك الخطأ نفسه.

رفع الأمن العام رسومه بنحو 28 ضعفاً، من غير أن يحتسب رسومه نسبة إلى الحدّ الأدنى للأجور، بل اقتطعها بالنسبة والتناسب مع سعر صرف الدولار الحالي، ومع ما كان يتقاضاه قبل الأزمة.
على سبيل المثال، رُفعت رسوم الحصول على جواز سفر لخمس سنوات 6 أضعاف من 1 مليون إلى 6 ملايين ليرة، بينما رُفع رسم الجواز لعشر سنوات 5 أضعاف من 2 مليون إلى 10 ملايين ليرة.

أمّا رسوم الإقامات بكلّ فئاتها، فارتفعت بنحو 40 ضعفاً، وارتفعت رسوم الإقامة للعمّال المصريين 65 ضعفاً، وإقامة الطلاب الأجانب 20 ضعفاً. ارتفعت رسوم نقل الكفالة 40 ضعفاً، ورسم الإقامة للّبناني الذي يحمل جنسية أجنبية 20 ضعفاً… وهذا كلّه يشير إلى أنّ الهدف ليس تعديل الأسعار لتتماشى مع التضخّم، وإنّما للحصول على أكبر قدر ممكن من الأموال، ومن دون أيّ مقاربة علمية واقعية منصفة.

يشي كلّ هذا بأنّ تسيير أمور الدولة اليوم يعتمد على الترقيع. بل يعتمد على تحصيل أكبر قدر من الإيرادات بلا أيّ أفق عمليّ قادر على النهوض بالاقتصاد مجدّداً من خلال خطط طويلة الأجل وفعّالة… ثمّ تأتي السلطة لتحدّثنا عن الإصلاح!

المصدر
عماد الشدياق - اساس ميديا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى