مقالات خاصة

طرابلس… يا قلب كل لبنان

بقلم د. وسيم بكراكي

جلست منذ مدة قصيرة مع أحد كبار المحامين في تركيا ممن يعمل في مجال العمل الخيري وجاب لهذا السبب العديد من دول العالم ومن بينها مدينة طرابلس الفيحاء التي زارها لعدة مرات متتالية. ولكوني من أبناء هذه المدينة كان مجرى الحديث بمجمله عن مدينة طرابلس الحبيبة التي كانت في زمن الدولة العثمانية من أقوى الولايات وأكثرها تميزا في تلك الفترة التي اشتهرت فيها بكونها مدينة العلم والعلماء.

هذه المدينة، وبعد عقود طويلة من التميز ومع ظهور الانتداب الفرنسي/الإنكليزي وتقسيم الدولة العلية الى دول متفرقة كان من سوء حظ مدينة طرابلس اقتطاعها من امتدادها التاريخي وعمقها الجغرافي الذي كان يجعل منها مدينة يقصدها التجار وطلبة العلم من كل مكان. وبحسب ما روى لي هذا المحامي المخضرم كان التوجه باديء الأمر أم تكون هذه الولاية جزءا من الدولة السورية ثم تم العدول عن ذلك وألحقت بجبل لبنان وبقية الجنوب اللبناني لتصبح جزءا من مصرفية لبنان الكبير ومن ثم إلى ما سمي بعد ذلك بالجمهورية اللبنانية التي كان لطرابلس وقادتها باع كبير في الحصول على الاستقلال الشهير الذي نعرفه جميعا ونتغنى به.

منذ ذلك الوقت ومدينة طرابلس تكافح بأهلها وكل ما تمتلكه من إمكانيات وطاقة لتكون مدينة الوطنية وجزء لا يتجزأ من لبنان الوطن الذي أحبه شعب طرابلس وتمنى أن يمتلك فيه ما تتمتع به أصغر القرى اللبنانية الأخرى خارج حدود الشمال اللبناني. وبالرغم من أن الجمهورية اللبنانية لا يمكن أن يكون دولة مكتملة إلا بوجود الشمال اللبناني ومدينة طرابلس تحديدا إلا أن هذا الأمر لم يكن سببا في استمرار تميز الفيحاء كما كانت عليه تاريخيا. وبفعل الإهمال الشديد وبكونها أصبحت مدينة مقطوعة الامتداد والشرايين التجارية والمعيشية التي كانت تغذيها وتدفع بها لتكون مقصد الجميع طلبا للتجارة والعلم، تراجعت هذه المدينة وبدأ الإهمال يأكل من تميزها ومن مرافقها التي أغلقت الواحد تلو الآخر إلى أن أصبحت المدينة الأكثر فقرا وحرمانا على طول البحر الأبيض المتوسط للأسف. لم يكن هذا الأمر وحده بالطبع السبب الرئيسي في توجيه الضربات لهذه المدينة، فهي إن نظرنا إلى امتدادها على ساحل البحر الأبيض المتوسط من فلسطين المحتلة إلى الداخل التركي سنجد أنها المدينة الوحيدة التي حافظت على هويتها الدينية سواء بانتمائها للطائفة السنية وبل للمذهب الحنفي تحديدا الذي كان المذهب الرسمي للدولة العلية العثمانية. ولعل هذا السبب هو أحد أكبر الأسباب بكونها حرمت وما زالت تحرم من أبسط الحقوق والخدمات.

مدينة طرابلس اليوم، عاصمة الشمال اللبناني هي المدينة التي تمتلك ثاني أكبر مرفأ تجاري متميز في لبنان يسمح لها بأن تكون مركزا للتجارة ليس للبنان فحسب بل لكل مدن الجنوب السوري.وهي المدينة التي تمتلك أكبر مساحة للمعارض الدولية عبر معرض رشيد كرامي المعرض الدولي الرسمي الوحيد في لبنان والذي لم يكتب له العمل وكبرنا ونحن نتحذر ما الذي يوجد في أبنيته الغريبة والجميلة. وهي المدينة التي تضم في سهل عكار مطار رينيه معوض الذي بإمكانه أن يصبح مطار دوليا يخفف من الضغط الهائل الذي يتحمله مطار رفيق الحريري المطار المدني الوحيد في لبنان.وهي المدينة التي تمتلك مصفاة طرابلس الشهيرة التي كانت منفذا للنفط العراقي وأذكر في طفولتي كيف كانت تعمل بكامل طاقتها وكيف كانت شرارات اللهب تخرج من الأنابيب العامودية نشاهدها باستغراب وحشرية الأطفال مع وابل من الأسئلة آنذاك… وهي طرابلس التي كانت معامل الغندور وغيرها من المعامل تعمل فيها وتؤمن فرصة عمل للكثير من أبنائها. وهي المدينة التي تتميز بالآثار المتعددة بل لا يكاد شارع من شوارعها القديمة يخلو من أثر هنا وهناك. ولكن أيا من نشرات الدولة السياحية لا يتضمن ولو غمزا لأي شيء من هذه الآثار المتميزة.

وهي المدينة الشامخة بقلعتها أكبر قلاع لبنان مع قلعة صغيرة على أطراف الميناء قرب محطة سكة الحديد التي توقفت هي الأخرى مع كامل ما ذكرت من مؤسسات ومراكز ومصانع دون أن يدري أحد ما السبب في كل ذلك ولماذا أصبح قدر هذه المدينة انتظار المعونة من المتعاطفين من مختلف دول العالم بعد أن تحولت مدينة العلم والعلماء إلى أفقر مدينة على شاطيء البحر الأبيض المتوسط. هي المدينة التي تتشابك مع سهل عكار الغني بكل ما يحلو لك من انواع الزراعة والأرض المعطاءة وحديث عكار حديث يطول في حرمان أكبر مما هو عليه حال هذه المدنية الحزينة. برغم كل هذه الصفات المتميزة التي بإمكانها أن تجعل هذه المدينة عروسة البحر الأبيض المتوسط من جديد، وعوضا عن دراسة كيفية إعادة الحياة لكل هذه الصفات النادرة أن تجتمع في مدينة واحدة، تأتينا أحاديث الغفلة لمدعي السياسة هنا ومدعي التحليل هناك ليكيل وابلا من الاتهامات المغرضة بحق أكثر مدينة ضحت وما زالت تضحي لتكون المدينة المثالية في لبنان الوطن.برغم كل ما ذكرت (وأغفلت الكثير طبعا) لم تقبل مدينة طرابلس وكامل الشمال اللبناني إلا أن تكون جزءا هو الأكثر وطنية في كامل الجمهورية اللبنانية، جمهورية الطائفية التي أعمت الشعب اللبناني وأوصلته إلى ما هو عليه اليوم من إفلاس تجاري واقتصادي وسياسي وأخلاقي. طرابلس أيها السيدات والسادة، بكل ما تسمعونه عنها من افتراءات غريبة كانت عروس الثورة يوم كانت تظن بأنها ثورة. وكانت رمز الوطنية يوم كان أهلها يحلمون بالوطنية وكانت وما زالت تحلم بلبنان الوطن بعيدا عن لبنان الأحزاب البالية التي هتكت عرض لبنان وشعب لبنان وتاريخ لبنان.

طرابلس اليوم هي المدينة المفجوعة التي تنتظر منكم يد المحبة والمؤازرة لتنفض عنها ما ألم بها من ظلم على مدى سنين طويلة وما وصلت إليه بعد أزمة لبنان الأخيرة إلى أسوأ وأدنى درجات الفقر والحرمان.حري بكم عوضا عن الإفراط في سيناريوهات نسج الخيال الظالم لتاريخها وأهلها، أن تفكروا بكيفية إنقاذ هذه المدينة وإعادة الحياة لكل مرافقها فهي المدينة التي إن عادت اليها الحياة عاش لبنان وإن تحركت عجلتها التجارية والاقتصادية عادت الحيوية إلى كل لبنان، وإن رفع الظلم والاجحاف عنها عاد لبنان باريس الشرق منبع كل الحضارات والأديان.طرابلس هي عروس الثورة وعاصمة الشمال وهي قلب كل لبنان.

الدكتور وسيم بكراكي

إختصاصي طب أطفال طبيب تركي لبناني رئيس جمعية الثقافة والصداقة اللبنانية ( توليب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى