عودة: عندما تكون الدولة ضعيفة تقوى الدويلات
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “فيما نقترب من اليوم الخمسيني المقدس، أي العنصرة، تضع كنيستنا المقدسة أمامنا مثال آباء المجمع المسكوني الأول القديسين، الذين اجتمعوا في نيقية في العام 325، والذين نعيد لهم اليوم. الآباء هم ثمرة عمل الروح القدس في الكنيسة، وهذا العمل لا يتوقف أبدا، لهذا فإن عصر الآباء القديسين لا ينتهي طالما الروح القدس يعمل، أي إنه عصر أبدي. فكنيستنا هي كنيسة كتابية-آبائية في آن. هي الكنيسة القائمة على بشرى الإنجيل، كما أنها كنيسة الآباء الذين نطقوا بإلهام الروح القدس، تماما كما نطق الإنجيليون والرسل. من هنا كانت أهمية الآباء موازية لأهمية الكتاب المقدس، لذلك نجد في كنيستنا المقدسة هذا التوازن بين الكتاب المقدس وتعليم الآباء محفوظا، الأمر الذي يدل على أن عمل الروح القدس لم ينته بعد العنصرة، بل استمر في الكنيسة-جسد المسيح وهيكله الحي، وهو مستمر إلى الأبد لأن الروح القدس مقيم فيها”.
أضاف: “الآباء في الكنيسة هم الرعاة والموجهون الروحيون والمرشدون والكارزون والمبشرون والمعلمون. إنهم أشخاص امتلأوا من المحبة الإلهية. هم الذين نقلوا لنا التقليد الكنسي الصحيح، وحملوا الفكر السليم المستقيم. إنهم خلفاء الرسل في تسليمهم الوديعة الحية، كما أنهم الناطقون بسلطان الخبرة الروحية المقتناة في الكنيسة. يأتي تذكار الآباء اليوم ليعلمنا أن الأبوة تبدأ من البنوة والطاعة للكنيسة وتعاليمها المستقاة من الكتاب المقدس، والموحى بها من الروح القدس. لذا، يرتبط تذكارهم بعيد العنصرة، عيد تأسيس الكنيسة وانطلاقها لنقل البشرى السارة في هذا العالم. لقد كان الآباء القديسون يوما أبناء، إذ تتلمذوا على أيدي الرسل أو تلاميذ الرسل، حتى أصبحوا بدورهم آباء ننهل منهم عطايا الروح القدس. إتباعهم لا يعني اتباع عاداتهم، بل هو اتباع الحقيقة التي عاشوها وبشروا بها، لنصبح نحن بدورنا آباء، أي لننتقل من مرحلة البنوة في الروح إلى مرحلة الأبوة في الروح، من مرحلة الإستلام إلى مرحلة التسليم. إتباع الآباء لا يكون بحفظ أقوالهم والاستشهاد بها، ودراسة حياتهم وتفاصيلها فقط، بل بالإقتداء بحياتهم، والسير على خطى تعاليمهم. نجد في عصر وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، أن كثيرين يسيئون إلى الآباء، لا بل يشوهون تعاليمهم، إذ يقتطعون منها ما يناسبهم ويخدم أفكارهم، وينشرونها، ليس بهدف التعليم، بل من أجل الإساءة إلى الآخر. ما قاله الآباء القديسون كان ثمرة كفاح ضد التعاليم المضلة التي حاول الهراطقة بثها في النفوس والعقول، فلا يجوز استخدامها في غير سياقها، بشكل يظهر الكنيسة وآباءها بعيدين عن المحبة الإلهية التي أوصى بها الرب في تعاليمه”.
وتابع: “سمعنا في رسالة اليوم قول الرسول بولس: «منكم أنفسكم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم”. الأبوة الحقيقية هي التي تجتذب الأبناء إلى المسيح. في أيامنا نجد الكثيرين ممن يجلسون خلف شاشاتهم لينظروا، ويطلقوا الأحكام البعيدة كل البعد عن المحبة، والهدف واحد، هو تجميع أكبر عدد من الأتباع لذواتهم، وليس للمسيح. أولئك ليسوا سوى أناس مضلين يجب تجنبهم والابتعاد عن تعاليمهم، وتمييز ما يتفوهون به وتمحيصه. ففي أزمنة المجامع المسكونية، كانت التعاليم المضلة تنتشر، إنما ليس بسرعة انتشارها اليوم. لهذا، ينبغي الانتباه، والتثقف الإيماني، بدءا من قراءة الكتاب المقدس، وصولا إلى التعمق في تعاليم الآباء لكي لا يذهب تعبهم سدى. دحض آباء المجمع المسكوني الأول هرطقة آريوس الذي أنكر ألوهة المسيح، مدعيا أن الرب يسوع مخلوق وليس ابن الله. فالتأم الآباء في مدينة نيقية ليشهدوا للإيمان القويم، واعترفوا بالمسيح إلها حقيقيا، مخلصا للعالم، ووضعوا القسم الأول من دستور الإيمان الذي نتلوه لغاية اليوم والذي نعترف فيه أن يسوع المسيح «إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر”.
وقال: “حبذا لو يتبع المسؤولون في الوطن خطى مسؤولي الكنيسة المدافعين عن الإيمان. حبذا لو يدافعون عن دستور البلاد ضد كل الهرطقات التي تشوهه. كيف يصبح البلد دولة مؤسسات إن لم يحترم دستوره ولم تطبق قوانينه؟ كيف يستقيم العمل في ظل غياب مجمع وطني يسهر على تطبيق الدستور واحترامه، مجمع مؤلف من رئيس للجمهورية، وحكومة أصيلة، ومجلس نواب اختارهم الشعب ليعملوا من أجل مصلحته، أي المصلحة العامة، ومن أجل تحصين المؤسسات العامة وتفعيل عملها في خدمة المواطن، وهذا يكون بإدخال الإصلاحات اللازمة والضرورية لكي يقوم كل إنسان مسؤول بعمله، ويحاسب على أي تقصير أو فساد أو سوء أمانة؟ بلدنا بلا رأس ولا حكومة فاعلة، مشلول، إداراته معطلة وبعض المراكز فيها خالية أو تدار بالوكالة. والجميع ينتظر، لكن الوقت يمر والفرص تضيع والأحوال تتدهور. والمشكلة الكبرى أننا نشهد فسادا يحميه فاسدون محميون من فاسدين ولا محاسبة ولا عقاب. كما نشهد سرقات وتعديات، ومناورات تجري تحت عيون الدولة والأجهزة الأمنية والعالم، لا علاقة للدولة بها”.
أضاف: “عندما تكون الدولة ضعيفة تقوى الدويلات والمحميات وتسود الفوضى. وفيما يسعى العالم إلى الإنفتاح والتسامح يشد بنا البعض إلى التقوقع والتعصب والتخلف والإعتداء على الحريات. الحاجة أصبحت ملحة للتغيير، للإصلاح، للخروج من مستنقع الفساد، خصوصا بعد التهديد بإدراج لبنان على اللوائح الرمادية، لأن العالم لم يعد يثق بمن تولوا مسؤولية الإبحار بسفينة الوطن، فأغرقوها، ولا يزالون يمعنون في إغراقها. لقد أعلنت بيروت عاصمة الإعلام العربي لسنة 2023. هذه المدينة التي كانت لؤلؤة العالم العربي وعاصمته الحضارية والثقافية والإعلامية، والتي كانت مدينة العلم والإستشفاء والنشر والصحافة، عاصمة الحرية والإنفتاح والإبداع، متى تسترجع دورها وتألقها؟”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نسير في هدى تعاليم الآباء القديسين المستندة على الكتاب المقدس وتعاليم الرب يسوع وتلاميذه الرسل الأطهار، وألا نستهين بالتقليد الشريف الذي تسلمناه منهم عبر العصور، وأن نعمل بحسب وصية المحبة الإلهية لكي نجتذب الجميع إلى الرب. دعاؤنا أن يحفظ الروح القدس جميع الآباء الرعاة، ويلهمهم كلمة الحق والاستقامة، وهذا الدعاء ينسحب أيضا على رعاة الوطن الذين نصلي أن يحل روح الرب فيهم ليحكموا ضمائرهم، ويحكموا بنزاهة وعدل، ويعملوا من أجل المصلحة العامة، حتى يصل الجميع إلى بر الخلاص والأمان”.