مقالات

“صيرفة”: شفافية قليلة وكثير من التربّح

يقدّر البنك الدولي أرباح منصة صيرفة منذ إطلاقها بـ2.5 مليار دولار، هذه المنصة التي تدور حولها الكثير من علامات الاستفهام منذ نشأتها إلى اليوم بسبب غياب الشفافية، إذ لا نعلم الكثير عن الجهات المستفيدة منها، إن استثنينا طبعاً موظفي القطاع العامّ الذين يستفيدون منها بشكل شهري، أما بقيّة المستفيدين فلا يعلم عنهم الشيء الكثير، سوى أنّ مصرف لبنان يدّعي أنّ المودعين يستفيدون منها علماً بأن مدّخراتهم محجوزة، وما إفادتهم إلا نقطة في بحر ما فقدوه.

يدّعي حاكم مصرف لبنان أنّ بين المستفيدين التجّار، لكن لو كان ذلك دقيقاً لانعكس انخفاضاً مباشراً في أسعار السلع والخدمات، الأمر الذي لم يحصل. إذن من المنطقي أن تخلص علامات الاستفهام التي تدور حول هذه المنصة إلى نتيجة مفادها أنّ هناك منافع لمحظيين على حساب المزيد من أموال المودعين. إضافة إلى أنّ الحاكم نفسه كان يتدخل في السوق مشترياً الدولارات حتى يبيعها على منصة صيرفة، وهذا من العوامل التي أدّت إلى المضاربة على الليرة اللبنانية وإلى المزيد من انخفاض قيمتها حيث سجّلت مستوى قياسيّاً بلغ 145 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد في شهر آذار، إلى أن أصدر في أواخر الشهر نفسه قراراً بأنه سيبيع الدولارات على سعر منصة صيرفة ولن يشتري بالمقابل، الأمر الذي ثبّت سعر الدولار على ما يقارب مئة ألف ليرة لبنانية ثم 94 ألف ليرة لغاية اليوم، وفي الفترة نفسها أي من أواخر آذار إلى اليوم، بلغت عمليات التداول على منصة صيرفة (اسمياً) أكثر من 3 مليارات دولار.

إفادة الحزب

وبات معلوماً أنّ جزءاً من الأموال المستخدمة على المنصة هي من الاحتياطي الإلزامي أو التوظيفات الإلزامية. وبما أننا لا نعلم بالتفصيل من يشتري هذه الدولارات ثم يبيعها في السوق ليستفيد منها، تطرح علامات استفهام عديدة تؤدي إلى إمكان وجود العديد من عمليات تبييض الأموال التي تتمّ عبر هذه المنصة. أمر آخر أصبح معلوماً هو أنّ هناك صرّافين استفادوا من منصة صيرفة، ومن هؤلاء صرّافون من الفئة الأولى موزّعون ومحسوبون على الأحزاب السياسية كافّة، ومنهم من أُدرِج على لائحة العقوبات التي استهدفت «حزب الله»، الذي يسيطر على شبكة من الصرّافين الشرعيين وغير الشرعيين الذين ينشطون في مناطق نفوذه، مثل شركة مقلد التي اتّهمتها الخزانة الأميركية بأنها تسهّل أنشطة لـ»حزب الله». إضافة إلى تداول أسماء مثل علي نمر الخليل أحد المضاربين في السوق السوداء، ويحيى مراد شقيق نقيب الصرّافين المقرّب من «حزب الله».

أبو زور: غير قانونية

في البعد القانوني تشير المحامية دينا أبو زور إلى أنّ منصة صيرفة غير قانونية لعدّة أسباب، فبموجب قانون النقد والتسليف يُحدّد سعر الصرف بحسب العرض والطلب كما يحدث إجمالاً في كل دول عالم الاقتصاد الحر، وهناك معيار آخر لتحديد سعر الصرف هو معيار قيمة الذهب المحدّدة أيضاً بموجب قانون النقد والتسليف.

وتلفت أبو زور إلى أنّ مصرف لبنان اعتمد بعد 17 تشرين منصة صيرفة بقرار من الحاكمية، من دون أي دراسة علمية أو قانونية. وقد تمّت المطالبة في أكثر من مرة بمعرفة الإطار القانوني لمنصة صيرفة، ولكن هذا الإطار غير موجود.

وتذكر أبو زور بأن المنصة أوجِدت بتعميم من مصرف لبنان أي بقرار أتبعه الحاكم بسلسلة من التعاميم التي تشرح حيثيات التداول على صيرفة، على أساس أنه يساهم بلجم سعر الصرف في السوق السوداء. لكن تبين أن منصة صيرفة وُجدت ليُعَيّن حاكم مصرف لبنان من خلالها سعر صرف يحدّده من حين إلى حين.

أنشئت لغايات أخرى

وتشير إلى ما قيل في المرحلة الأولى عن أن المؤسسات والشركات والتجّار وبعض الأفراد لا يستطيعون الاستفادة منها إلا بتقديم بعض المستندات. بعد ذلك تخطّى البنك المركزي هذا الأمر وصار بإمكان بعض الموظفين الاستفادة منها، وكأنها أصبحت عمليّة رشوة لهم من أجل إسكاتهم، على حدّ تعبير أبو زور، حيث يحوّلون أموالهم إلى دولارات من خلال منصة صيرفة، ثم يبيعون هذه الدولارات في السوق السوداء. وبهذا تكون قد تحوّلت إلى منصة للمضاربة التي ازدادت في السوق، ولم تلجم بالنتيجة سعر الصرف في السوق السوداء، لا بل على العكس أصبح سعر الصرف على منصة صيرفة مرتبطاً بسعر الصرف في السوق السوداء وملاحقاً له. وهذا دليل على أنها لم تنشأ من أجل الهدف الذي أعلن عنه في البداية.

المفارقة في القانون، بحسب المحامية أبو زور، أنّ حجم التداول الذي تعلنه حاكمية مصرف لبنان هو دون أي معطيات جدّية من المصرف المركزي. ونحن لا نعلم إن كانت هذه الأرقام صحيحة أم لا، خاصة أنّ السوق اللبنانية ليست كبيرة، وحجم الأموال التي يُحكى عنها هو حجم هائل، ما يعني أنّ هناك من يحقق أرباحاً ضخمة خاصةً أنه ليس بإمكان كل المواطنين الدخول إلى منصة صيرفة والمشاركة فيها، وأكثر من يشارك هم التجار الكبار والمستوردون والمحظيون، وهؤلاء بالتأكيد هم تابعون إمّا لجهات سياسية أو نافذة وإما للمصرفيين أنفسهم.

لم تؤدّ الهدف منها

وبالقانون، هذه تعدّ عملية مضاربة على السوق، ما يعني أنها لا تؤدي الهدف أبداً، خاصة أنه لا يحق لنا أن نوجد سعر صرف جديداً بموجب منصة دون أن يكون هناك بالأصل تثبيت لسعر الصرف أو على الأقل محاولة لتثبيته عبر أطر قانونية، عبر العرض والطلب ولجم كل أسعار الصرف الموجودة مثل سعر صرف السحب في المصارف، وسعر صرف التعاميم، وسعر صرف السوق الموازية، وسعر صرف الجمارك… كل هذه الأسعار يجب أن تُلجم ويُعتمَد سعر صرف العرض والطلب، في حال أردنا الخروج من الأزمة.

ولكنّ منصة صيرفة زادت الأزمة، وصرنا نلاحق سعر صرف السوق، وصرنا نحدّد الرسوم والضرائب بشكل مخالف كليّاً للقانون بل بشكل مخالف لقانون العقوبات نفسه، لأنه لا يجوز تحديد الرسوم والضرائب بموجب سعر مع هامش متحرّك، بل يجب أن يكون مثبّتاً ومعروفاً من قبل أن يُسدَّد الرسم أو الضريبة اللذين يجب أن تحدّد قيمة كل منهما بموجب قانون. وهذا الأمر منصوص عليه في القوانين المرعيّة الإجراء، وبالتالي إيجاد هامش بموجب قرارات صادرة عن وزير مالية وبهامش متحرّك مثل منصة صيرفة هو مخالفة صارخة للقوانين ترتّب تبعات على الأفراد.

ساهمت بتعميق الأزمة

من كل ما ذُكر تستنتج، المحامية أبو زور، أنّ الهدف الأساس من منصة صيرفة كان تأمين أرباح من مصرف لبنان لكبار المحظيين وكبار التجار وكل من يستطيع التداول بكميات كبيرة من الليرات. إذاً فمنصة صيرفة هي منصة غير قانونية، ويجب السعي لوقف العمل بها، وأكبر دليل هو تقرير البنك الدولي الذي أكّد أنّها ساهمت بتعميق الأزمة والزيادة في انهيار الليرة وتدهور قيمتها.

عجّاقة: تحرير الصرف على أساسها

من ناحية أخرى يرى الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجّاقة أنّ منصة صيرفة جاءت حلّاً وسطاً بين سعر الصرف الثابت الذي لم يكن بالإمكان التخلّي عنه بشكل مفاجئ، وبين سعر السوق السوداء الذي كان خارج سيطرة الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان.

ويشير إلى أن صيرفة كانت في البداية اجتماعية بحتة، فالتعميم الأول الذي صدر كان أقرب إلى المساعدة وكان السعر على المنصة 3900 ليرة لبنانية للدولار الواحد. ثم تحت الضغط الاقتصادي وعدم قدرة الدولة ومصرف لبنان على تزويد السوق بالدولارات بغض النظر عن السبب، طُرِحت فكرة أن يكون السعر على منصة صيرفة محرّراً (نسبياً)، وهذا الأمر سيؤدي في أي مفاوضات مستقبلية مع صندوق النقد إلى تحرير سعر الصرف، والسؤال أن هذا التحرير سيكون حسب أي سوق؟ لذلك يمكن القول إنّ منصة صيرفة هي السوق التي سيكون تحرير سعر الصرف على أساسها. وبحسب المعلومات المتوفرة فإنّ صندوق النقد الدولي يريد أن يحرّر سعر الصرف على هذه المنصّة.

نجاح وفشل

نجح عمل المنصة في نواحٍ وفشل في نواحٍ أخرى. وفي البعد الاجتماعي شكّلت مساعدات لموظفي القطاع العامّ ولذوي الدخل المحدود، جرّاء التعميم 161 الذي كان يتيح لهم شراء الدولارات بالليرة اللبنانية حسب سعر منصة صيرفة، هذه الدولارات التي كانوا يبيعونها في السوق السوداء. ومعلوم أنّ الحكومة غير قادرة لا من قريب ولا من بعيد على تغطية هذا الشق كما يجب. لذلك يقول عجّاقة إن صيرفة استَنزَفت الكثير من الدولارات، التي ذهبت إلى جيوب التجّار، وكلنا كنا نعرف أنّ بعض هؤلاء التجار كانوا يأخذون الدولارات حسب سعر منصة صيرفة ليشتروا بها بضاعة يهرّبونها عبر الحدود.

إنّ مصرف لبنان بحسب القانون لا يستطيع ولا يحقّ له أن يتدخّل بالسوق السوداء لا ليضخ أموالاً ولا ليسحبها إلا وفق أصول معينة، والأمر نفسه ينطبق على المصارف. ببساطة ليس هناك اعتراف بما يسمّى «السوق السوداء»، التي يسمّيها بعض من يعارضون سياسة مصرف لبنان، «السوق الموازية»، ويسمّيها التجّار «السوق الحقيقية». أي إن وصف هذه السوق يختلف بحسب موقع الشخص. من أجل ذلك، ولكي يستطيع مصرف لبنان لجم سعر الدولار في هذه السوق بدأ في المرحلة الأولى بإعطاء الدولارات للمصارف، وهنا لم تنجح العملية، برأي عجّاقة، لذا كان لا بدّ من المنصة ليستطيع المصرف المركزي التدخل بطريقة أو بأخرى، وهكذا نشأت منصة صيرفة.

اللاعبون على المنصة

هناك ثلاثة لاعبين على منصة صيرفة بحسب عجّاقة:

  1. مصرف لبنان صاحب النشاط الأكبر على المنصة للبيع،
  2. المصارف التي لا يحقّ لها بأي شكل من الأشكال أن تشتري لنفسها دولارات على المنصة، بل تُلزَم بأن تكون بائعة،
  3. الصرّافون من الفئة «أ» هم النشطون على المنصة للشراء وللبيع.

كان هناك تدخّل رسمي من مصرف لبنان، ولكن أيضاً كان هناك تسجيل لعمليات من السوق العادية التي لم تكن بالضرورة ضمن إطار شرعي كامل. لذلك جاءت هذه المنصة بين السوق السوداء والسوق الرسمية.

يكفي أن يرتفع السعر على منصة صيرفة إلى مستوى سعر السوق السوداء حتّى يتوحّد السعر في كل الأماكن. لكن إن رُفع سعر «منصة صيرفة» إلى مستوى السوق السوداء، هناك طبقة ستتضرّر. لذلك يعتقد عجّاقة أن منصة صيرفة ستخدم أمرين اثنين في المستقبل مع قدوم الحاكم الجديد:

  1. سيُوَحَّد سعر الصرف عليها، وهذا أمر أساسي،
  2. سيكون تداول الليرة والدولار عليها.

وهنا يطرح السؤال: هل ستختفي السوق السوداء بالكامل؟

الجواب برأيه هو بالتأكيد «لا»، فما دام ضبط الحدود غائباً لن نستطيع ذلك.

المصدر
نداء الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى