مقالات

لماذا تخلّى العونيّون والحزب عن إقالة سلامة؟

بدا واضحاً أنّ الاجتماع التشاوري الذي عقده رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع الوزراء لبحث كيفيّة التعامل مع مذكّرة التوقيف الدولية الصادرة في حقّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ليس إلّا لرفع الحرج تجاه الخارج، وتوجيه رسالة بأنّه لم يتجاهل التطوّر القضائي.

لكنّ ما نُقل عن ميقاتي ومعظم من حضروا الجلسة يؤكّد أنّ ما من أحد متحمّس لخوض معركة إقالة الحاكم. في الحكومة موقفان معروفان سلفاً: ميقاتي هو نفسه ميقاتي الذي وقف ضدّ إقالة سلامة بعد تشكيل حكومته، بذريعة أنّ “القائد لا يغيّر ضبّاطه خلال المعركة”، ورئيس مجلس النواب نبيه برّي يحفظ للرجل عقود الودّ والتعاون.

يبقى طرفان يحمل موقفهما شيئاً من المفاجأة: العونيون والحزب:

– أتى الموقف العوني معاكساً للحملة الإعلامية التي تصوّرهم رأس حربة في مشروع إطاحة الحاكم، للاستفادة لاحقاً من مفاعيل رحيله كإنجاز سياسي خالص لهم. لكنّ موقف وزرائهم في الاجتماع مع ميقاتي قدّم صورة معاكسة، ربّما من منطلق عدم الحماسة لسابقة شغور منصب الحاكمية تصريف أعمالها لشيعيّ.

– أمّا الحزب فقصّة أخرى: فبعدما كان رأس حربة الهجوم على المنظومة المالية، تحوّل الإعلام القريب منه إلى صمتٍ مطبقٍ منذ بدء الملاحقات الأوروبية، وذاك هو حال نوّابه ووزرائه. ولا تفسير لذلك إلّا أنّ الحزب ليس في وارد ضرب الرجل بعد الخدمات الجليلة التي قدّمها له منذ عام 2015 على الأقلّ.

– تمظهر عمق العلاقة بينه وبين الحزب بين سطور تصريحات سلامة الأخيرة لقناة “الحدث”. إذ إنّه رفض بشكل واضح أيّة إدانة للعمل المصرفي غير القانوني الذي تمارسه جمعية القرض الحسن، وأخلى مسؤوليّته عن أيّ دور في ملاحقتها، على الرغم من أنّ قانون النقد والتسليف، الذي يُفترض بسلامة أن يسهر على تطبيقه، واضح في أنّه يُحظَر “على أيّ شخص حقيقي أو معنوي لا يمارس المهنة المصرفية أن يتلقّى ودائع” (المادة 125). كما أنّ سلامة نفسه أصدر تعاميم متعدّدة، آخرها في 2019، لتنظيم عمل الجمعيات التي تمارس أنشطة التمويل للمشاريع المتناهية الصغر، وضمان امتثالها لتعليمات مكافحة غسل الأموال. وبالطبع لم تمتثل “القرض الحسن” لأيّ منها. ومع ذلك يقول سلامة بصريح اللسان: “ما تجربوا ترموها عليّ”.

ليس هذا إلّا رأس جبل التعاون بين الحاكم والحزب. فبينهما ما هو أعمق، بدءاً من تسهيل الالتفاف على العقوبات الأميركية على الحزب، مروراً برفض سلامة الانخراط في أيّ جهد للتضييق على مصادر التمويل الخارجي للحزب، وانتهاءً بامتثال سلامة لطلب الحزب الدخول في منظومة شراء الدولارات من السوق لصالحه عن طريق شركة حسن مقلّد الخاضع للعقوبات الأميركية.

ما علاقة الفرنسيّين؟

في البلاد وشوشات كثيرة تربط ملاحقة سلامة بغايات سياسية، من باب أنّ “الفرنسيين يلاحقونه”. وكأنّ القاضية أود بوريزي تنسّق خطواتها مع الإليزيه! تقدِّم هذه السياقات السياسة الخارجية لإبراء ذمّة الحكومة والقوى المحلّية في ما يتعلّق باتّخاذ موقف مبدئي في القضية بعزل الرجل أو كفّ يده، بعد صدور النشرة الحمراء في حقّه، كما لو أنّ المسألة كلّها صراع سياسي خارجي ينبغي النأي بالنفس عنه.

يدير ميقاتي ظهره للملفّ، وقد نُقل عنه في الاجتماع مع الوزراء ما يفيد بأنّ الكرة في ملعب السلطة القضائية، وأنّه لا يرى داعياً لإقحام الحكومة فيه. يبدو الأمر منسّقاً. يخرج نائب رئيس الحكومة المستقيلة سعادة الشامي قبل الاجتماع الوزاري بساعات ليعلن موقفاً “شخصيّاً” مؤيّداً لإقالة سلامة. لكنّه يردف بأنّ الأمر ليس بيده، وأنّه لا بدّ من استطلاع الرأي القانوني لمعرفة ما إذا كان لدى الحكومة الصلاحية لاتخاذ قرار كهذا. ثمّ يجتمع الوزراء، وبينهم عدد من القضاة، فيُجمع الرأي القانوني على أنّ بالإمكان إقالته، ويتّضح أنّ الغاية من الاجتماع لا تعدو نشر الخبر والصورة.

ماذا عن القضاء اللبنانيّ؟

أمّا المسار القضائي فهو الآخر مرتّب من دون أيّة فرصة للمفاجآت. الإجراءات الشكلية ستأخذ مداها، على نحو المحاولات “الشكليّة” لتبليغ سلامة باستدعائه لجلسة الاستماع أمام القاضية الفرنسية. جلسة الاستماع التي استُدعي إليها سلامة أمام المحامي العامّ التمييزي القاضي عماد قبلان غداً الأربعاء، لن تسفر عن توقيفه وتسليمه إلى فرنسا بالتأكيد. بل بات متداولاً أنّ المدّعي العامّ التمييزي غسان عويدات سيُصدر قراراً بمنع السفر وحجز جواز سفره، فيتحوّل سلامة إلى كارلوس غصن آخر في كنف دولةٍ لا تسلّم مواطنيها الملاحَقين بتهم الفساد من القضاء الأجنبي.

يقول منطق ميقاتي إنّ ولاية سلامة تنتهي في مطلع تموز، ومن صبر عليه ثلاثين عاماً يصبر أربعين يوماً. وما دامت كرة النار بيد القضاء فلتبقَ هناك.

لكن في الخارج من يرى إقالة سلامة إشارة رمزية لا بدّ أن تأتي من بيروت، للقول إنّ شيئاً ما تغيّر. يبدو البلد عصيّاً على الفضيحة. ما من فضيحة في أنّ رأس السلطة النقدية في البلاد ملاحَق بالنشرة الحمراء، وبمذكّرة توقيف فرنسية، وأخرى من ألمانيا. وما من فضيحة في أنّ لديه مئات ملايين الدولارات من الأموال المحوّلة من لبنان، والأصول المحجوز عليها في الخارج.

يتصرّف الجميع وكأنّ المسألة قضائية تقنيّة. سلامة نفسه يسوق الأمثلة لمسؤولين في دول أخرى استمرّوا في مناصبهم طالما لم تصدر بحقّهم أحكام قضائية. لم يذكر بالطبع اسم حاكم بنك مركزي واحد ظلّ في منصبه بعد صدور النشرة الحمراء لملاحقته.

في الخارج، لم تعد فضيحة الحاكم شأناً قضائياً، بدليل ما تسرّب عن إدراج قريب للبنان على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي FATF للدول غير المتعاونة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

سيصبح مشهد الوزراء المجتمعين بلامبالاة الرمز الأخير لانحلال الدولة وعدم جدارتها باحترام الخارج ومحاورته لها.

المصدر
أساس ميديا

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى