«اللبننة» بين وحدة الموالاة وتشرذم المعارضة
شعار «لبننة الإستحقاق» بقي محور مزايدات القوى السياسية والحزبية، التي أوغلت في خلافاتها وصراعاتها على المركز الأول في الجمهورية، لدرجة قطع كل شرايين الحوار والتواصل في ما بينها، بما في ذلك بين حلفاء الأمس: حزب الله والتيار العوني.
وعندما هبّت رياح التفاهمات على المنطقة، بعد إتفاق بكين بين السعودية وإيران، وإكتفاء دول اللقاء الخماسي بتحديد مواصفات الرئيس المقبل، وتجنب الدخول بالأسماء، بعد نبذ المقايضة الفرنسية، بدأت مواقف الدول المعنية مباشرة بالوضع اللبناني المعقد، وخاصة السعودية وإيران وأميركا، تتوضح أمام اللبنانيين، الذين إختلفوا، كالعادة، في تفسير ما يسمعونه من كلام ومواقف من السفراء المعنيين، وخاصة سفير المملكة العربية السعودية وليد بخاري، الذي سجّل رقماً قياسياً في الزيارات واللقاءات التي عقدها مع مختلف القوى السياسية، ومع المراجع الرسمية والروحية منذ عودته من إجازته الرمضانية قبل نحو إسبوعين.
التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني حسين عبد الأمير اللهيان خلال زيارته إلى بيروت الشهر الماضي، أكدت على ترك الملف الرئاسي للتوافق بين اللبنانيين، دون الدخول في المناورات السياسية اللبنانية الملتوية، وطالب الأطراف اللبنانية العمل على الإسراع في المسار الإنتخابي لرئيس جديد.
البيانات الأميركية الصادرة عن الخارجية في واشنطن، وماكانت تطرحه السفيرة شيا في لقاءاتها الرسمية والسياسية، أكدت عدم وجود فيتو على أحد، ولا تأييد حصري لأحد من المرشحين المحتملين، والبقاء على مسافة واحدة من الجميع، إفساحاً في المجال أمام اللبنانيين لإختيار من يحظى بالتوافق، أو بالتأييد الأوسع في البرلمان.
جولات السفير السعودي بخاري المكثفة على مختلف القيادات السياسية والروحية، وعلى معظم الكتل النيابية، كان محورها واحد: المملكة يهمها مواصفات الرئيس المقبل قبل إسمه وشخصه، لأن الأهم من الإنتخابات الرئاسية هو قدرة الرئيس العتيد على التعاون مع الحكومة الجديدة على وضع لبنان على سكة الإصلاح والإنقاذ.
وجاء إستقبال بخاري لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية في بيت السفارة في اليرزة ليؤكد، دون لبس أو إبهام، حرص المملكة على التعاطي مع الجميع، في إطار سياسة التفاهمات والإنفتاح التي تهيمن على مسار التطورات الإيجابية في المنطقة بعد إتفاق بكين، والتي كان آخر تجلياتها عودة سوريا إلى الصف العربي، وذهاب الرئيس السوري إلى المملكة للمشاركة في القمة العربية التي ستُعقد هذا الأسبوع في جدّه.
كل تلك المعطيات كان من المفترض أن تصب في إطار «لبننة» الإستحقاق الرئاسي. ولكن الخلل الحاصل في المعادلة الداخلية، وتفاوت عناصر القوة بين فريقي الموالاة والمعارضة، أضفيا على المعركة الإنتخابية ظلالاً من الغموض والترقب، بسبب تماسك محور الموالاة، مقابل تشرذم فريق المعارضة، التي أصبحت مجموعة معارضات، تفتقد إلى القيادة الموحدة، بل وهي بأمسّ الحاجة إلى الحد الأدنى من التنسيق بين أطرافها، من الأحزاب السياسية التقليدية، إلى الكتل النيابية المتفرقة، إلى مجموعات الثورة والتغيير، والتي يحار ناخبيهم في تسميتهم.
وفيما ينشط محور الموالاة، وخاصة الثنائي الشيعي، في نزع الألغام من طريق مرشحه فرنجية إلى قصر بعبدا، تستمر «الخلافات الصبيانية» بين مجموعات التغيير وبعض المستقلين، وتعجز الأحزاب الكبرى، وفي مقدمتها القوات والكتائب، عن جذب تلك المجموعات إلى أبسط حدود التفاهم على خوض المعركة بمرشح واحد في الجلسة النيابية المرتقبة بعد القمة العربية لحسم الإستحقاق الرئاسي.
والمفارقة أن اللجوء إلى تعطيل النصاب لم يعد سلاحاً مناسباً، بعد إرتفاع وتيرة التهديدات من عواصم القرار، بفرض عقوبات على كل من يُعرقل الإنتخابات الرئاسية في لبنان. وبالتالي فإن المواجهة أصبحت محتومة في مجلس النواب، في فترة لا تتخطى نهاية حزيران المقبل كحد أقصى.
ولكن القضية الأهم، والتي لا تستحوذ على الإهتمام اللازم من الأطراف السياسية، خاصة في فريق المعارضة، أن إنتخاب الرئيس وحده لا يكفي لقلب صفحة الإنهيارات في البلد، إذ أن التفاهمات الخارجية تشمل رئاسة الحكومة، وطبيعة التشكيلة الحكومية، وبرنامج الأولويات الذي ستنتهجه، لتنفيذ الإصلاحات الضرورية لفتح أبواب المساعدات العربية والدولية.
وبإنتظار جلاء نتائج الإتصالات الناشطة على أكثر من صعيد في الداخل والخارج، يقف لبنان على عتبة مرحلة جديدة في تاريخه السياسي: إما الإستمرار في نظام التوافقات وما أفرزه من محاصصات مريبة بين أفرقاء المنظومة الحاكمة، أو العودة إلى قواعد النظام الديموقراطي الصحيح القائم على حكم الأغلبية، ومعارضة الأقلية التي أدّى تشرذمها إلى فقدان فعاليتها بالأكثرية العددية!