إقتصادمقالات

في لبنان: تقع الجريمة.. فيُلاحق القتيل

لقد تخطّت السلطة السياسية في لبنان نفسها مع «الإبداعات» التي تقدّمها يوماً بعد يوم.

بعد اربعة اعوام، لا تزال الودائع محجوزة لدى المصارف وتستمر عملية تقليصها، فيما المودعون يعانون ظروفاً اجتماعية صعبة، تتمثل بعدم قدرتهم على تأمين أبسط شروط الحياة الكريمة من طبابة وتعليم.. الخ.. فبدل التدقيق والمحاسبة مع من تسبّب بالأزمة، يأتي من يطالب برفع السرّية المصرفية عن المودعين للتدقيق في حساباتهم لمعرفة أين اختفت الاموال، وكأنّ المودعين اعتدوا على انفسهم.


تحاول قاضية ملاحقة المصارف ومحوّلي الأموال، لكشف حقيقة الجريمة التي وقعت، فتتمّ ملاحقة القاضية وكفّ يدها وصرفها من العمل.
ونسأل: هل يلاحقونها ويصرفونها لأنّهم غير راضين على أدائها في إدارة الملف؟ أم لأسباب اخرى؟ هل لأنّها لم تطالب بالتقارير المدقّقة على مدى 25 عاماً من شركتين عالميتين على حسابات مصرف لبنان المركزي، وهي نقطة البداية الأساسية للتحقيقات؟ أم أنّها لم تصل إلى نتائج جدّية في معالجة التقارير المالية؟ أم لأنّ الدعاوى والتحقيقات أخذت منحى اعلامياً أكثر منه استقصائياً تدقيقياً في الارقام؟ او لأنّه لم يتضح حتى الآن إذا ما توصلت إلى وقائع وإثباتات من التحقيقات؟


ونحن نلومها ايضاً إذا كانت لم تطلب التقارير المدقّقة المذكورة اعلاه، وهي أساسية في تكوين صورة عمّا حصل في المصرف المركزي. إنّ عدم قيامها بطلب التقارير والإصرار على الحصول عليها يُعتبر تقصيراً. ونطلب منها إذا كانت تملك التقارير ان تنشرها كاملة، بالإضافة إلى نتائج التحقيقات التي اجرتها، ليطّلع عليها الشعب اللبناني كله. عندها ستحظى بدعم شعب بكامله ينتظر ان يُفرَج عن ودائعه وامواله. فليس من المقبول ان تبقى هذه التقارير والتحقيقات سرّية بعد ما تعرّض له لبنان.
أيزعجهم كونها حصرت ملاحقتها بأشخاص من جهة سياسية واحدة ولا نلومها؟ ولكن نسأل، أين القضاة الآخرون في ملاحقة مسؤولين من جهات سياسية أخرى؟ فلا يستطيع قاضٍ بمفرده ملاحقة الجميع، ولكن تعاوناً جدّياً بين القضاة يجعلهم قادرين على القيام بهذه المهمة.
نعرف انّ قيام كل قاضٍ بملاحقة المسؤول المحسوب على الفريق الآخر يؤدي إلى تشويه صورة القضاء. ولكن هذا الطرح افضل من عدم ملاحقة المرتكبين والتحجج بالتسييس، ليفلت المرتكبون من العقاب. فحتى اليوم، غالبية المسؤولين عن الفساد باتوا متساوين في الهدر والسرقة، وبالتالي الهدف هو محاسبتهم. وللتخلّص من حجة الاستهداف لأسباب سياسية، فليقم كل قاضٍ محسوب على جهة معينة بملاحقة مرتكب من الجهة السياسية المقابلة، وبذلك نصل إلى محاسبة جميع المرتكبين.


وذُكر انّه تمّ إيقاف القاضية عون عن العمل لأسباب تتعلق بسفرها إلى فرنسا من دون إذن، رفضها التبلّغ بموعد محاكماتها وتخلّفها الدائم عن حضور هذه الجلسات، عدم التزامها بقرارات المدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، وكأنّ كل ما يحصل في البلد هو قانوني وطبيعي. وإذا كانت فعلاً هذه هي الاسباب، يكون من المؤسف انّ من اتخذ هذا القرار اعتبر انّ هذه الأسباب أكثر اهمية من استرجاع حقوق الناس ومحاسبة المسؤولين عن تعتيرهم. وكأنّ حجز اموال المودعين وتدمير حياتهم لا يستأهلان ان تخرج قاضية عن المألوف، في محاولة ملاحقة من تسبّب بالتعتير للشعب اللبناني. فهل لا يشعر الجسم القضائي في لبنان بالمأساة التي يعيشها الناس اليوم نتيجة سياسات وأفعال شخصيات لا تزال تحظى بالحماية؟ وهل انّ قرار وقف القاضية عن العمل يهدف إلى تصويب المسار القضائي أم إلى حماية وتخليص من هم وراء مأساة مجتمع بكامله؟


علماً انّ ما تقوم به القاضية عون يجب ان يقوم به كل قاضٍ في بلد يتمّ فيه حجز ودائع الناس، وأن يتمّ التعاون قضائياً للوصول إلى نتائج وتقييم عملها بعيداً من السطحيات القانونية.
عندما انفجرت الأزمة المالية صرّح رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط عبر «تويتر»، انّه «آن الأوان ان يبرز قاضٍ مثل Di Pietro في لبنان». وهو على حق في ذلك، بل نحتاج إلى أكثر من قاضٍ مثله في لبنان.
ودي بيترو هو القاضي الذي أطلق حملة «الأيادي النظيفة» (أو الأيادي البيض) في ايطاليا مطلع التسعينات، وشملت التحقيق مع أكثر من 5 آلاف شخص، من بينهم نصف أعضاء البرلمان وأكثر من أربعمئة مجلس بلدي، بغية معرفة سبب خسارة إيطاليا أربعة مليارات من الدولارات سنوياً. وبنتيجتها، قامت المافيا بتصفية قضاة، منهم القاضيان جيوفاني فالكوني وباولو بورسيلين
Giovanni Falcone and Paolo Borsellino.

في لبنان، لسنا مافيا، فلا نقوم بتصفية القضاة جسدياً، بل نقوم بتصفيتهم معنوياً ووظيفياً. نعم نحن أكثر تمدناً من ايطاليا. نحتاج إلى ان يتحول كل قاضٍ في لبنان إلى «دي بيترو» لنصل إلى الحقيقة وكشف الأسباب التي اوصلتنا إلى التعتير. على كل قاضٍ ان يساعد في تكوين الحقائق العلمية المرتكزة على الارقام والبيانات والتقارير المدققة، لا ان يصبح انجازهم الوحيد هو إيقاف غادة عون عن العمل.
ونذكّر الجميع بأهمية إقرار قانون الشفافية المطلقة في لبنان. ولن نملّ او نتعب من المطالبة به. فالأمور مستمرة في التدهور ولم يتمّ تسجيل اي تقدّم على مستوى مكافحة الفساد في لبنان. الشفافية المطلقة هي الحل.


المصدر
فادي عبود- الجمهورية

قسم التحرير

التحرير في موقع قلم سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى