مقالات

استراتيجيّة إيران الجديدة في المنطقة … القبض على سوريا وتعزيز سلطة “الحزب” اللبنانيّ!

من يتابع تداعيات الاتفاق السعودي – الإيراني في المنطقة، يلاحظ، إلى جانب عودة العلاقات وفتح السفارات والقنصليات، أن تقدماً حصل في شكل رئيسي في اليمن كملف أول تُرجم بهدوء الجبهات أمنياً وتبادل الأسرى وتراجع الحملات السياسية لمصلحة الحوار، والذي يحتاج إلى وقت ليبلور حلاً مستداماً في هذا البلد. حدثت أيضاً تطورات إيجابية في سوريا، وهي الملف الثاني في مفاعيل الاتفاق، تمثلت بالانفتاح العربي وعودة دمشق إلى جامعة الدول العربية، والأهم عودة العلاقات بين السعودية وسوريا، أقله على المستوى الدبلوماسي. بقي لبنان معلقاً بين الملفات الشائكة والخلافية، وذلك على الرغم من تراجع الحملات ضد المملكة التي شكلت على مدار سنوات عنواناً لخطابات الممانعة. لكنّ ثمة انعكاساً وحيداً للاتفاق على لبنان يكمن في تراجع التوتر السنّي – الشيعي، والذي كان يغذي المعركة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان، ما يعني أن المنطقة كلها دخلت في مسار جديد بفعل التحولات التي حدثت في الاستراتيجية الإيرانية.

لا يعني الاتفاق الذي رعته الصين، أنه أخمد النيران في المنطقة، إذ إن الصراع لا يزال قائماً وسط رهانات كل طرف على إمكان تسجيل انتصار في ملفات معينة. لكنه صراع أقله في المرحلة الحالية وضع السلاح جانباً من دون أن يلغي وظيفته، أي أنه لم يعد أولوية في الصراع القائم، وملامح ذلك كانت واضحة في اليمن وسوريا، وأيضاً في لبنان. يرتبط الصراع الحالي بالمعادلات القائمة ومسار تغيير تركيبتها في المنطقة، وحدود النفوذ الإقليمي لكل طرف، وأيضاً الدولي، إذ إن هناك لاعبين كباراً لم يقولوا كلمتهم النهائية بعد، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، لذا يحتاج الأمر إلى متابعة ما ستسفر عنه نتائج الاستحقاقات في عدد من الدول، لتبيان الخطوط التي تُرسم وموقع كل دولة فيها.

من السابق لأوانه تحديد ما ستستقر عليه الأوضاع في سوريا، وهي تشكل ملفاً تلتقي فيه تقاطعات كثيرة، إقليمية ودولية. فإذا كانت الأمور واضحة في اليمن وفق المعادلات القائمة، إلا أن لا أحد يستطيع استشراف الوضع السوري مع النظام المتشبث بمكتسباته في السلطة. لا تصور واضحاً في ما يتعلق بالمستقبل السوري، وكيفية تعامل النظام مع الانفتاح العربي عليه، خصوصاً أنه على علاقة متينة بالنظام في إيران الذي يتحكم بمفاصل أساسية في الساحة السورية، علماً أن نظام بشار الأسد له وظيفة محددة مارسها خلال الفترة السابقة، وهو لن يتخلى عنها بسهولة، وقد نحتاج إلى وقت لتبيان كيفية تعامله مع المرحلة الجديدة، إن كان خارجياً مع الدول العربية وإيران، أو داخلياً أو في ما يتعلق بمشكلة النازحين السوريين التي يوظفها أيضاً لمصلحته، خصوصاً في لبنان. لذا لن يكون هناك رهان على إمكان أن يفتح النظام صدره للمعارضة أو ينحو نحو التعددية لا سياسياً ولا طائفياً، وهو ما يعني أن الأزمة في سوريا ستبقى قائمة رغم كل التحولات التي نشهدها على صعيد رفع المقاطعة والحصار عنه.

الملف الأصعب والشائك يبقى لبنان، فهو لم يكن من الأولويات في الاتفاق الإيراني – السعودي، على الرغم من أن أزمته الداخلية أكثر استعصاءً في ظل الانهيار القائم. ويظهر أن القوى الإقليمية والدولية التي تحركت في الفترة الأخيرة عبر اجتماع باريس الخماسي، لم تعد على الوتيرة نفسها، بعدما اكتشفت ان الاستعصاء اللبناني الداخلي والانقسامات القائمة عصية على الحل، إضافة إلى أن الملف اللبناني لم يعد له وظيفة تشكل أولوية على غيرها، إن كان لحوادث توازن في البلاد أو لجهة المردود الذي يمكن أن يوفره مقابل التدخل. بالنسبة إلى السعودية لم يعد الملف اللبناني عنوان صراع، إذ إن المعادلات القائمة لا تدفعها للعمل على تشكيل حالة سنية مواجهة هي غير متوافرة أصلاً. وعلى الرغم من حركة السفير السعودي وليد البخاري في بيروت، ومن بينها لقاؤه مع مرشح “حزب الله” للرئاسة، إلا أن جل ما تهدف إليه هو تحقيق نوع من التوازن عبر الحوار من دون تبني اسم مرشح لرئاسة الجمهورية، وإن كانت لا تزال تتمسك بمواصفات حددتها للاستحقاق.

يظهر الموقف السعودي واضحاً بعدم إصراره على بحث الملف اللبناني في الاتفاق مع إيران، والذي يحتاج إلى حوار منفصل أو مسار مختلف عن اتفاق بكين. أما إيران فهي الأخرى لم تكن بوارد نقاش الوضع اللبناني مع السعودية، ما دام لبنان بالنسبة إليها ساحة سيطرة وهيمنة بقوة “حزب الله”، وفي الوقت نفسه يبقى لبنان في قلب استراتيجية المواجهة الإيرانية إذا توترت الأمور ويمكن توظيفه في وحدة الجبهات ضد إسرائيل. الإيرانيون كانوا مرتاحين لعدم إدراج الملف اللبناني في الاتفاق، وبالتالي لم يعد هناك ضرورة للمواجهة بالسلاح أو بالتصعيد عبر حلفائها وأذرعتها، باعتبار أن الاتفاق فتح مساراً جديداً في المنطقة، وهو حاجة إيرانية أيضاً جرى التعبير عنها بالتحول الإيراني الاستراتيجي في المنطقة بعد إعلان الانتصار في سوريا.

وإذا كانت السعودية لا تزال على موقفها من “حزب الله”، رغم الاتفاق، ألا أن هناك تغيرات حدثت في سياستها تعكس تحولاً في طريقة مقاربتها للأمور، فهي لا تزال غير مهتمة ببلورة خطة أو إطلاق مبادرة محددة، ما دامت موازين القوى لا تجعل هذا الأمر متاحاً. وفي المقابل، توسع إيران تأثيرها في لبنان وسط غياب أميركي عن الساحة بفعل أولويات أخرى، رغم تركيز الإدارة الأميركية على العقوبات. وعليه، يبقى الوضع اللبناني عصياً على الحل، ولا يبدو أن هناك انفراجات في المدى القريب، على رغم كل الكلام عن إمكان انتخاب الرئيس في حزيران (يونيو) المقبل. ويبدو أن الاستعصاء الأول يبقى عند “حزب الله” الذي يصر على إيصال مرشحه سليمان فرنحية لرئاسة الجمهورية، وهو ما عبر عنه أخيراً نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم، ويعكس توجهه إلى بقائه قوة إقليمية يستثمرها للحفاظ على مكاسبه في البلد وفي السلطة وفي القرار اللبناني.

وللبنان وظيفة بالنسبة إلى إيران لها علاقة بمحور المقاومة، إذ يجب تثبيت المعادلات القائمة في الداخل وبالعلاقة مع سوريا عبر الحدود التي تشكل جزءاً من التفاهمات مع النظام السوري، رغم تعهده عربياً بوقف التهريب. لذا يبقى لبنان معلقاً مقابل الملفات الأخرى في الاتفاق السعودي – الإيراني، لا بل ملحقاً بالملف السوري، ما دامت هناك وظيفة يؤديها “حزب الله” الذي يصر على تكريس الفراغ كي يصل مرشحه للرئاسة، وفي الوقت نفسه يرفع شعار المقاومة ووحدة الجبهات التي يمكن أن تفجر منطقة الجنوب اللبناني وإدخالها في المواجهة إذا استمر التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزة. وعليه لا يبدو أن لبنان سيخرج من أزمته في وقت قريب، فيما الحل الدولي لم ينضج بعد بالتوازي مع التحولات في المنطقة، في انتظار ما ستحدثه المعادلات الجديدة على تركيبة المنطقة وخرائطها وحدودها.

المصدر
ابراهيم حيدر - النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى